كوني توماس او كونسيسيون كما تعرف في محيط اقامتها بأهم مكان بأمريكا , امام حديقة البيت الابيض على السور الحديدي البيضاوي , هذه المناضلة الامريكية , المهاجرة الاسبانية سيدة المبادئ الدولية والانسانية لا تسكن القصور العالية ولا تأكل الهامبرغر ولا الكنتاكي ولا البيتزا , ليس امام قصورها باحات من الورود والممرات بارتفاعات مختلفة ,ولا تركب السيارات المعتمة ولا يرافقها رجال ضخام البنية يضعوا نظارات سوداء على عيونهم ليس لأنها مرأة غير مهمة بل لأنها مرأة قصتها كبيرة وحكايتها اكبر انها لا توافق على سياسات البيت الابيض في العديد من القضايا , وبالتالي باتت منذ 1979 تدافع عن الكثير من القضايا الكونية والسياسية التي ارهقت العالم واستنزفت سمعته بشأن اختلاف معايير حقوق الانسان هنا وهناك , وتنتقد المسارات السياسية للرؤساء الامريكان على اختلاف احزابهم السياسية باحتجاجها امام البيت الابيض , اكثر من ثلاثة عقود و رسالتها واحدة انها لا تريد ان يدمر العالم نفسه من خلال انتشار الاسلحة النووية ومن خلال التجارب الضارة بالإنسان ومن خلال العديد من القضايا التي تهدد حياة الانسان اينما كان , انتقدت سياسات الرؤساء الأمريكيين بخصوص تلك القضايا واهمها تعامل هؤلاء الرؤساء مع القضية الفلسطينية كأحد اكبر واعقد القضايا التي ارهقت السياسة الدولية وانكرت بفعل الدور الامريكي الغبي كامل الحقوق الفلسطينية وحقهم في مساواتهم بباقي الشعوب على هذه الارض بان يكون لهم وطن مستقل قابل للحياة على ارضهم ولهم عاصمتهم التي اقرها التاريخ واقرتها الشرائع السماوية .
امام البيت الابيض بدأت قصتها الاحتجاجية عندما نصبت لها خيمة صغيرة وتوشحت الاصفر و ارتدت خوذة فوق راسها , خوذتها التي تقيها من قساوة الحياة في الشتاء الامريكي وتعبر بها عن غضبها من سلوك الادارة الامريكية , عاشت ثلاثون عاما في شارع بنسلفانيا 1600 , كل من مر على البيت الابيض او دخل اليه او خرج منه يستطيع ان يشاهدها ويعرف من خلال ما تعرض من عبارات مكتوبة على جدران خيمتها رسالتها دون ان يسال احد , كتبت عنها الصحف الاجنبية كثيرا وبعض الامريكية و قليل جدا من العربية والفلسطينية مع انها تدافع عن حق تقرير المصير للفلسطينيين وتدافع عن كينونتهم وهويتهم وتنتقد كل الادارات الامريكية و الرؤساء الأمريكيين بسبب تعاملهم مع القضية الفلسطينية بكل انحياز لصالح اسرائيل , ولشعوري بشيء من الواجب الاخلاقي تجاه تلك المرأة المناضلة كتبت هذا المقال لتكريمها كأحد مناضلات الزمن الذي تغلب فيه العنصرية على المساواة وتغلب فيه لغة الدم على لغة الحب وتغلب فيه لغة النزاعات على السلام والاستقرار , وتغلب فيه توجهات واشنطن لتبني سياسة الاحتلال الاسرائيلي على انهاءه كونه أحد اهم اسباب الصراع بالشرق الاوسط في زمن تغلب عليه سياسة التجاهل الامريكي للحقوق الفلسطينية على التدخل الايجابي لصالح السلام العادل , قليل من الاعلامين الفلسطينيين ابرز دورها في هذا الجانب و مبادئها السياسية ورسالتها العالمية , لذا قررت انه لابد من ان يعرف ابناء الشعب الفلسطيني عنها وعن دورها الكبير ونضالها الطويل .
لوكنت رئيسا لفلسطين يوما من الايام خلال حياة هذه المرأة لقررت ان اجلس في خيمتها لساعة قبل ان التقي اوباما او بوش الابن او كلينتون او اي سياسي امريكي فهي تتحدث عن حق شعب فلسطين في دولة لهم و تتحدث عن حقوق الانسان بلا مواربة ولا تحزب ولا عنصرية و لا تفير مشبوه لمواد القانون الدولي , لكن هذا لم يحدث وما حدث انها قضت في هذا الشتاء وبالتالي بقيت رسالتها تتناقلها وسائل الاعلام كأحد اهم رسائل السلام بالعالم " لا تتركوا العالم يدمر نفسه " ولو كنت الان في مستوي القرار لأعطيت التعليمات للأعلام الفلسطيني المكتوب والمسموع والمرئي التحدث عنها وعن ثلاثة عقود من النضال على طريقتها , لو كنت الرئيس اليوم لكرمتها بما تستحق لأنها سيدة قالت كلمة حق امام سلطان جائر , واشنطن واعلامها تجاهلت تلك المرأة ايضا وكأنها ليست حدثا بالولايات المتحدة ولا قصة اعلامية كبري تدور احداثها على مدار ثلاثين عاما امام البيت الابيض , تدافع فيها بلغتها وبأسلوبها عن حياة هذا العالم وحياة الملايين من البشر من خلال معارضتها لانتشار السلاح النووي بكل انحاء العالم, كما وانها تدافع عن الاطفال في كل مكان لانهم باتوا اليوم الحطب الذي تحرقه الحروب وتستهدف حياتهم في كل نزاع وهم من يدفع فاتورة الصراعات المختلفة بكل اماكن حدوثها بالعالم .
لعل تجاهل هذه المرأة اليوم من قبل وسائل الاعلام الامريكي وتجاهل الادارة الامريكية لها كانت القصة المخزية في الجانب الاخر امام قصتها الكبرى لأنها بالفعل كانت تضع يدها على الجرح المؤلم في جسد الغول الامريكي البشع الذي يستخدم قوته فقط لحماية مصالح اسرائيل ومصالحة باي مكان بالعالم دون ان يساهم بنشر السلام والامن والاستقرار ويكفل حياة امنه مستقرة لسكان هذه الارض دون تميز ودون ادوار ودون صفقات مشبوهة مع بعض الاطراف الدولية ودون تكتلات تهدف في حقيقها لفرض مزيد من السيطرة والتحكم بهذا العالم الضعيف , ولعل تجاهل الاعلام الفلسطيني لهذه المرأة هو بسبب فقره الفكري وفقره الاداري وهبوط الاسلوب الذي يتناول به القضايا الكبرى بالعالم على المستوي الدولي وما يهمه فقط الدوران في دائرة نصف قطرها قضايا الوطن من المستوي الثالث والنصف الاخر قضايا الفصائل والمناكفات الاعلامية التي لا تعود على قضينا الا بالفائدة للغاصب المحتل دون وعي بذلك .
بقلم/ د. هاني العقاد