كشف المنخفض الجوي الأخير خلال الأيام الماضية الهوة السحيقة بين المواطن والقيادة صاحبة القرار في طريقة اتخاذ القرار وقت الأزمات، والتي يبدو أن إدارتها للأمور تدار بطريقة عشوائية وأن أكثر ما يهمها هو إثبات أنها صاحبة قرار بغض النظر إن كان ذلك في مصلحة المواطن أو أنه يبدو في قائمة أولوياته واهتماماتها.
الأمثلة على ذلك كثيرة ومعظم الناس عرفتها وعاشتها، ولعل من أبرز تلك الأزمات، أزمة هؤلاء المواطنون الذين تهدمت بيوتهم في الحرب الأخيرة وأصبحوا بلا مأوى إلا من بعض بيوت معدنية متنقلة لا تقي من حرارة صيف ولا برودة شتاء، اللهم إلا من بعض المساعدات المالية التي أُعلن عن توزيعها للتخفيف من معاناة المواطنين جرّاء البرد الشديد، والتي رغم ذلك لم تحل لهم مشكلاتهم.
من عايش الأجواء الباردة والماطرة في المدن الفلسطينية ورأى كيف غرقت بعض المناطق من مياه الأمطار وصعوبة خروج الأهالي من مناطق بأكملها نتيجة حصار المياه لهم وانتشار صور لهذه المناطق الغارقة على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى وسائل الإعلام حتى أن البعض شبه هذه المناطق بمدينة البندقية العائمة، وجعل المواطن يدرك أن كل الحديث عن وجود تجهيزات لمواجهة المنخفضات الباردة هو كلام للاستهلاك الإعلامي فقط وأنه بعيد كل البعد عن الحقيقة، محملين عبء مواجهة الأزمات ليواجهها في حدود إمكانياته المحدودة والمتواضعة لدرجة أن أنطلق البعض من المسؤولين في تصريحاتهم بشأن تمديد إجازة منتصف العام لطلاب المدارس ليوم أو يومين آخرين، وهم يعرفون تمام المعرفة أن كل المناطق ليست بنفس المستوى من الغرق، وأن هناك مناطق بأكملها محاصرة بالمياه، ملقيا بذلك المسؤولية على المواطن وترك تقدير الموقف لهذا المواطن وأسرته ليتحمل هو مسؤولية ذهاب عدم ذهابهم إلى المدرسة أو عدم انصياعهم للقرار الصادر عن وزارة التربية والتعليم، دون ان تتحمل المسؤولية تجاه أي ضرر يلحق بالطلاب أو المواطنين، متجاهلا أيضا أن هناك العديد من المدارس نتيجة الحرب الأخيرة أصبحت غير صالحة لتلقي العلم، وأن الفصول من شدة برودتها لتعرض بعضها للقصف أصبح لا تصلح لتلقي الطلاب التعليم فيها، لنجد الحل عند أحد المسؤولين ليفاجأنا باكتشاف علمي جديد يقضي على البرودة داخل المدارس بالقول أن الطاقة الكامنة في أجساد الطلاب تعادل الطاقة الكامنة في أربعة دفايات.
معقول وصل الاستخفاف بالمواطن واحتياجاته إلى هذا الحد، والاستهتار بحياة المواطنين والذين طالما تغنينا ليل نهار بقدرتهم على الصمود في مواجهة الأزمات.
لكن يبدو أن المواطن من كثرة الأزمات المتلاحقة لم يعد يبالي ويهتم بما يلحق به من أزمات متلاحقة بات متكيفا معها، وصار يتعامل معها على أنها أمر واقع، وصار يجمّل القبيح في الواقع الذي يعيشه، فقد نشرت وسائل الإعلام قبل فترة قليلة حول كيفية قضاء المواطن الغزي وقته في ظل الجو الشديد البرودة والمطر المتواصل وإجباره على الجلوس المتواصل في المنزل متزامنا مع انقطاع متواصل في الكهرباء ووصل لا يتجاوز الثلاث ساعات في اليوم لا يستطيع فيها المواطن تلبية الحد الأدنى من احتياجاته اليومية، هذا إذا تجاهلنا استخدام وسائل التدفئة الضرورية في مثل تلك الظروف، ما لفت النظر في هذا التقرير هو ردود فعل هؤلاء المواطنين وإجاباتهم، معظم المتحدثين أجمعوا أن للجلوس في المنزل وانقطاع الكهرباء له فوائد عديدة لم تكن متاحة في ظل انقطاع الكهرباء، لعادات قديمة مفتقدة مثل الخبز على أفران الطين، والتدفئة على الحطب والفحم، غيرها من الأمثلة تدل على الحنين على عادات قديمة وربما انقرضت مع استخدام وسائل العصر الحديث، ووجه الاعتراض هنا ليس على عودة تلك العادات القديمة، وإنما الاعتراض يكمن في أنها باتت تشكل ثقافة وفلسفة جديدة دخلت على المواطن وكأنه ليس من حقه أن يعترض على كل المشاكل التي تنغص عليه حياته دون أن يكون له أي حق على الاعتراض أو أن يكون له رأي.
هذه الأزمات والتي تتوالى أزمة تلو الأخرى أصبحت جزءا من حياة المواطن وأنهكت قواه، ولم يعد له حق الاعتراض على وجود هذه الأزمات، وصار يبحث عن البدائل لحل هذه المشكلات دون أن يسعى لحلها، وإنما اقتطاع حلول جزئية ليدير بها أموره، ولا تصلح كحل بديل يمكنه من إدارة أزمة طويلة الأمد، وكأن هناك توافق بين الجميع، بين المواطن وأصحاب القرار على الموافقة على بقاء الوضع على ما هو عليه.
الكاتب / حسن سلامة