أدرج البعض الحراك الشعبي خلال الأشهر والأيام الأخيرة في لبنان والعراق والجزائر والسودان كامتداد لما جرى في نهاية 2010 وبداية 2011 في تونس ومصر وامتداد لأحداث سوريا واليمن وليبيا أو بصيغة أخرى كجزء من (الفوضى الخلاقة) الأمريكية التي تم تسميتها زورا بالربيع العربي .
صحيح أن هناك أوجه شبه من حيث أنه حراك شعبي في مواجهة الأنظمة القائمة التي انكسرت هيبتها ولم تعد من المقدسات الوطنية وكسره حاجز الخوف ،ولكن هناك خصوصيات وفروق نابعة من خصوصية البنية الاجتماعية و التجربة التاريخية لكل بلد ،الأمر الذي يجعل ما يجري في هذه البلدان خارج سياق فوضى (الربيع العربي) ،حتى بالنسبة للتحركات الشعبية الأخيرة نجد أوجه تباين بينها فلكل بلد ربيعه الخاص .
فبالنسبة للبنان فإن الحراك الشعبي المندلع للأسبوع الثاني ،والذي كانت شرارته حزمة من القوانين الحكومية التي تمس جيوب المواطنين الذين يعانون بالأساس من تدهور خطير في مستوى المعيشة ،يخفي أسباباً عميقة ومعقدة وله خصوصيات لبنانية وأبعاد متعددة ومنها :
1- البعد الطائفي حيث الجماهير واضحة في مطالبها بإسقاط الطائفية والمذهبية والمحاصصة وكل الطبقة السياسية ،فالحراك يشكل إرهاصات ثورة ضد نظام طائفي مذهبي بكل ألوان المذاهب والطوائف وتحميله مسؤولية إفقار الشعب وفساد مؤسسات الدولة وفقدانها هيبتها .
2- غياب جماعات الإسلام السياسي حتى الآن عن المشهد ،بل يقف حزب الله وجماعات إسلاموية أخرى حذراً من الثورة ومتخوفاً من وجود أطراف خارجية تحركها ووقوفه إلى صف الحكومة والنظام ،وهناك أخبار عن حراك شعبي مضاد يقوده أو يحركه حزب الله .
3- تأكيد المتظاهرين على تمسكهم بالديمقراطية وبالدولة المدنية القائمة على المواطنة .
4- بالرغم من غياب مواقف دولية واضحة وخصوصاً من طرف واشنطن والغرب مما يجري في لبنان إلا أن الجيوبولتيك اللبناني يثير تخوفات من قدرة الشعب اللبناني على النأي بنفسه عن التدخلات الخارجية .
5- مصدر التخوف الأكبر ليس من التدخلات الخارجية أو تدخل الجيش بل من الميليشيات الحزبية المسلحة التابعة للتحالف الحكومي سواء تعلق الأمر بحزب الله أو الأحزاب المسيحية ،وهذه الميليشيات تملك من القوة أكبر مما لدى الجيش اللبناني وفي استطاعتها تفكيك بنية الجيش النظامي وافتعال حرب أهلية .
ومن هذا المنطلق فإن الحراك الشعبي اللبناني يأتي محصلة تراكمات تجمع ما بين تردي الوضع الاقتصادي والتجربة التاريخية السياسية للنظام السياسي اللبناني وأزمة نظام ديمقراطي تحاصصي أو توافقي بين الطوائف ،أكثر مما هي امتداد لفوضى الربيع العربي ،وخصوصاً أن لبنان سبق أن شهد أحداثاً اتسمت بالدموية وأخذت طابع الحرب الأهلية كما جرى عام 1958 وخلال الحرب الأهلية من 1975 حتى مؤتمر الطائف 1989 .
حتى نفهم ما يجري في لبنان لا بأس من معرفة طبيعة النظام الطائفي اللبناني والسياق التاريخي لظهوره ،وقبل الاستطراد فقد جاء في سياق تعريف الموسوعة السياسية للطائفية بأنها "الطائفية نظام سياسي اجتماعي متخلف، يرتكز على معاملة الفرد جزءاً من فئة دينية تنوب عنه في مواقفه السياسية، ولتشكل مع غيرها من الطوائف الجسم السياسي للدولة". ظهر الكيان اللبناني عام 1920 فهو كبقية بلاد الشام من صناعة سايكس –بيكو ،وكما أن بريطانيا المنتدبة على فلسطين ألزمت نفسها بوعد بلفور الذي يمنح دولة لليهود في فلسطين فإن فرنسا التزمت بأن يكون لبنان الكبير دولة للمسيحيين وخصوصاً للموارنة الذين كانوا يشكلون أغلبية السكان بحيث تكون القسمة أو المحاصصة في مختلف المناصب 6 للمسيحيين وخمسة للمسلمين وبقية الطوائف،وهكذا فإن الميثاق الوطني غير المكتوب الذي تم التوافق عليه عام 1943 قام على أساس تقاسم طائفي بين المسلمين والمسيحيين داخل المؤسسة التشريعية وبالنسبة لبقية المناصب الكبرى بحيث يكون رئيس الدولة مسيحي ماروني ورئيس الوزراء مسلم سني ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي ورئيس أركان الجيش درزي الخ .
في مؤتمر الطائف 1989 الذي جاء بعد الحرب الأهلية طرأ تغيير طفيف بحيث تم الاعتراف بأن تكون النسبة 50% لكل طرف داخل المجلس النيابي ،مع استمرار المعادلة الطائفية ووعود بتجاوزها لتتحول لبنان من ديمقراطية طائفية قائمة على المحاصصة إلى ديمقراطية حديثة تلغي الطائفية ،ولكن هذا لم يحدث وبقيت الطائفية السياسية معززة بطائفية اجتماعية تجاوزتها كل المجتمعات المتحضرة ،واستجد على الوضع بروز الدور السياسي الكبير للطائفة الشيعية وخصوصاً مع ظهور حزب الله في الثمانينيات الذي جمع ما بين احتكار تمثيل الطائفة الشيعية ومحور المقاومة الذي يتجاوز جنوب لبنان إلى كل لبنان وإيران وسوريا والعراق وفلسطين .
لعقود كان يُضرب المثل بلبنان الذي استطاع التوصل لصيغة تعايش ما بين الطوائف في إطار (ديمقراطية طائفية أو ديمقراطية المحاصصة) ،وإلى اندلاع الحرب الأهلية 1975 ،وباستثناء أحداث 1958 ،استطاع لبنان العيش باستقرار مع ازدهار اقتصادي وثقافي وانفتاح على كل دول العالم ،حتى الوجود الفلسطيني الكبير في المخيمات الناتج عن حرب 1948 لم يخل كثيرا بالتوازنات السياسية الداخلية .
هذه الصيغة وصلت لطريق مسدود وبدلاً من أن تشكل ديمقراطية المحاصصة الطائفية مرحلة انتقالية نحو ديمقراطية المواطنة النافية للطائفية والمذهبية تعززت الطائفية وأصبح النظام السياسي كما يقول المعارضون رهين لشيوخ الطوائف بحيث تم توزيع ثروة لبنان والمناصب السياسية بين شيوخ الطوائف وأزلامهم ،فعندما تُسند وزارة لطائفة تصبح مِلكاً أو ضيعَة للطائفة وخصوصا لرجالاتها الكبار ومن حق من تختارهم الطائفة أن يستمروا في مواقعهم دون محاسبة أو عقاب ،بل أصبحت كل طائفة وكأنها دولة داخل دولة لها مناطق نفوذها وميليشياتها المسلحة ومنافذها وعلاقاتها مع الخارج ،وأصبح الانتماء للطائفة أكبر وأهم من الانتماء للوطن المُفترض ، أما الدولة فتحولت إلى شاهد زور أو كيان رمزي يحمي الطائفية والطوائف ورجالاتها وامتيازاتها وكل محاولاتها للتنمية الشمولية كانت تصطدم بمصالح الطوائف وعلاقاتها وتحالفاتها الخارجية كما تم تغييب القانون بسبب الوساطة وتدخلات الطوائف ،أما غالبية الشعب من غير أبناء عائلات قادة الطوائف وميليشياتهم فأصبح يعتاش على الفتات الذي تتركه لهم المحاصصة الطائفية .
وأخيرا ،قد تستطيع الجماهير التي خرجت في شوارع المدن اللبنانية إسقاط الحكومة وقد تصل الأمور إلى تغيير قواعد دستورية ،أما إسقاط وإلغاء الطائفية وإن كان هدفاً نبيلاً فإنه يحتاج لتغيير جذري في بنية وثقافة المجتمع اللبناني ،وإذا ما تمكن اللبنانيون من إسقاط الطائفية السياسية فهذا سيكون انجازاً يُحسب للشعب اللبناني وسيمهد الطريق لإسقاط الطائفية السياسية والمذهبية في كل العالم العربي وخصوصاً في العراق وسوريا .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت