"التيه" الفلسطيني… ومخارجه

بقلم: علي الصالح

حالة من "التيه السياسي" تعيشها القيادة الفلسطينية بجميع مكوناتها.. وسنغض الطرف عن أكثر من22 عاما ضاعت منذ توقيع اتفاق اوسلو.. الدلائل تشير إلى أن الخروج من هذا "التيه" الجديد سيطول. وأملنا الوحيد ألا يكون التيه الفلسطيني بطول تيه بني إسرائيل40 عاما.
ويبقى الفارق بين تيه بني إسرائيل والتيه الفلسطيني، أن قيادة بني إسرائيل ممثلة بالنبي موسى، كانت تدعوهم وتقودهم إلى قتال "الكنعانيين الجبابرة"، فخذلوها بينما في التيه الفلسطيني الصورة مقلوبة، فإن "شعب الجبارين" هو الذي يدعو قيادته ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة والفصائل الأخرى، للقتال مع العدو، وهي التي تتقاعس.
والتيه الفلسطيني ليس ناجما عن غياب المخارج، أو المنافذ، فهي موجودة وتحتاج فقط لقرار شجاع، كما أنها ليست جراء تخاذل أو تقاعس "بني فلسطين" الذين لم يسبق لهم أن تقاعسوا أو قالوا لقيادتهم ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم موسى "إذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون"، بل كانوا دوما سباقين وفي المقدمة في تلبية نداء الواجب، والدليل على ذلك انه لا يزال مصمما على القتال والمواجهة والتضحية، بعد اكثر من قرن وربع القرن من الزمن تقريبا، قضاها في محاربة الأطماع الصهيونية في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر، مرورا بوعد بلفور المشؤوم عام 1917 فثورة البراق 1929 التي امتدت من بئر السبع جنوبا وحتى مدينة صفد شمالا، وانتهت بانتصار فلسطيني على مطامع اليهود في حائط البراق، بالاعتراف بالحائط جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم القدسي الشريف، وتثبيت ملكيته للمسلمين فقط. ثم ثورات 1936 و1948 والثورات الفلسطينية المعاصرة، التي انطلقت في ستينيات القرن الماضي، فانتفاضة الحجارة 1987 دعما لمنظمة التحرير وتكريسا لوجودها. فانتفاضة الاقصى 2000 دعما لتمسك الرئيس الراحل ياسر عرفات بالثوابت الفلسطينية في كامب ديفيد، وصولا إلى الهبة الشعبية الحالية التي جاءت دعما لموقف الرئيس أبو مازن الداعي لعدم الالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات لعدم التزام إسرائيل بها.
ورغم هذه التضحيات والاستعداد لمزيد منها فإن القيادة الفلسطينية حائرة في أمرها ومرتبكة ومترددة في قراراتها.. فمرة ترفع سقف التوقعات لدى الشارع الفلسطيني ومرة أخرى تنزلها إلى سابع أرض، ومرة ثالثة تهدد وتتوعد باتخاذ خطوات ضد الاحتلال، ومرة اخرى تراها تهادن وتتراجع، ومرة رابعة تبعث رسائل متناقضة متضاربة. والحيرة والارتباك والتوهان القيادي، دفع جيل ما بعد اوسلو لأن يمسك زمام الامور ويواجه العدو بطرقه الخاصة في محاربة العدو.. وهو ما فعله شباب قباطية الثلاثة، الذين نجحوا في اختراق الحواجز العسكرية الاسرائيلية والاغلاق المفروض على القدس، بالوصول من شمال الضفة الغربية إلى المدينة المقدسة في جنوبها، بأسلحتهم وتنفيذ عمليتهم والاستشهاد.. ما أعظم هذا الشعب إنه حقا "شعب الجبارين". ويدل على حالة التيه واللاقرار هذه، التضارب في مواقف وتصريحات المسؤولين حتى في الفصيل الواحد، والمقصود هنا حركة فتح، العمود الفقري لمنظمة التحرير "راعية" المشروع الوطني. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر موضوع الوفد الذي شكل في الاسبوع الماضي للقاء رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو، وبرر هذا القرار بأنه آخر محاولة قبل أن تتخذ القيادة الفلسطينية قرارها الأخير والنهائي، في ما يتعلق بموضوع الالتزام باتفاقات اوسلو السياسية منها والاقتصادية والأمنية، وهو القرار الذي اتخذه المجلس المركزي للمنظمة في مارس 2015 وأكد عليه الرئيس أبو مازن في خطابه أمام الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 سبتمبر الماضي وكرر عشرات المرات لاحقا على لسان أكثر من مسؤول.
وقبل أن نتناول تصريحات عدد من قادة فتح وكلهم اعضاء في لجنتها المركزية في هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن القرار بحد ذاته يعكس حالة التوهان والحيرة.. اذ يعطي الانطباع بأن القيادة الفلسطينية لا تزال تعلق الآمال على تغيير في موقف الحكومة الاسرائيلية بقيادة نتنياهو، من سياستها والعودة إلى رشدها، وهي التي اعلنت في غير مرة تنصلها من التزامات اتفاقات اوسلو، ورفضها وقف الاستيطان ومبدأ الدولتين.. مثل هذا القرار لا يمكن إلا أن يوصف بأنه مأساوي وأنه لن يقود إلا إلى استنتاج واحد، أن هذه القيادة اصبحت عاجزة وغير ذات صلة.
وثانيا: إن هذه القيادة بمثل هذا القرار، إنما تحاول تجنب اتخاذ القرار الشجاع الحاسم والصحيح وهو، وقف الالتزام بما لا يلتزم به الجانب الآخر.. حتى لا يحسب عليها وتحاسب عليه اسرائيليا وامريكيا واوروبيا وربما عربيا..
ثالثا: رغم أن القرار اتخذ في اجتماع للجنة المركزية وبموافقة الجميع، حسبما قاله لي عضو فيها، إلا أن عددا منهم حاول التنصل منه. فصائب عريقات نفى وجود خطة لعقد الاجتماع، وقال "لا صحة لهذه الأنباء".
حسين الشيخ وهو المسؤول عن التنسيق مع الجانب الاسرائيلي، نفى هو الآخر أن يكون هناك توجه لعقد مثل هذا اللقاء، إذ قال معلقا "هذه الأنباء غير صحيحة، ولا توجد اجتماعات مع نتنياهو". مع أن اسمه كان من الأسماء المطروحة لعضوية الوفد.
محمد اشتية أكد أن وفدا فلسطينيا مكونا من حسين الشيخ، ورئيس المخابرات ماجد فرج، ومدير جهاز الأمن الوقائي اللواء زياد هب الريح، سيلتقي الجانب الإسرائيلي، وأنه سيبلغ نتنياهو بقرارات المجلس المركزي، التي ستجد السلطة نفسها مضطرة لتنفيذها، في حال استمرت السياسة الإسرائيلية الحالية، وأن الغرض من اللقاء (وليس معروفا أن عقد أم لا)، إبلاغهم بأن "الانتهاكات التي تعيشها الأراضي الفلسطينية يعد أمرا مرفوضا، وأن ضرب الاتفاقيات السابقة بعرض الحائط أمر غير مقبول، وأنه إذا استمرت بذلك سيكون لنا حديث آخر". وقال "نريد أن نسمع من الجانب الإسرائيلي هل يريد الاستمرار في انتهاكه لأراضي المنطقة أو انتهاك الاتفاقيات الموقعة أم ماذا. وبناء على الرد ستتخذ القيادة الفلسطينية الموقف المناسب".
تبريرات غير مقنعة وتعكس هذا التيه الذي تعيشه هذه القيادة، إذ لا حاجة لمزيد من الانتظار للرد الإسرائيلي فهو يكرر يوميا، بانتهاك الاتفاقيات الموقعة عبر مصادرة الأراضي والنشاط الاستيطاني وهدم البيوت ويزيد على ذلك بالإعدامات الميدانية وحرق العائلات الخ.
وفسر عضو آخر في اللجنة المركزية عندما سألته هذه التناقضات في إطار التنظيم الواحد بقوله، إن اعضاء اللجنة المركزية يدلون بتصريحاتهم هذه واعينهم تتطلع إلى المؤتمر العام السابع للحركة، للحفاظ على عضويتهم في مركزيتها. بعبارة اخرى أنهم يضعون المصلحة الشخصية وليس حتى المصلحة الفصائلية فوق المصلحة العامة.. أمر آخر يحكم الصراع على خلافة الرئيس أبو مازن، وهو صراع خرج إلى العلن ولم يعد أحد قادرا على التكتم عليه.
مثال آخر.. تلوِّح اللجنة التنفيذية للمنظمة والسلطة وكبار المسؤولين الفلسطينيين ومنذ أكثر من 9 أشهر بوقف التنسيق الامني مع قوات الاحتلال، ثم تخرج علينا وسائل إعلام صهيوني لتنسب إلى مدير جهاز المخابرات ماجد فرج القول، إن التنسيق الأمني قائم ومفيد لجميع الأطراف وإن الاجهزة الأمنية أوقفت، حسبما تناقلته الصحافة الاسرائيلية على لسانه، حوالي200 عملية ضد قوات الاحتلال والداخل الإسرائيلي.
يا سيدي لماذا لم تكن السلطة منذ البداية واضحة في تعاطيها مع موضوع التنسيق الامني؟ لماذا لم تصدق القول؟ وإذا كانت مقتنعة بأن في التنسيق مصلحة لـ"المشروع الوطني الفلسطيني" لماذا لم تفصح عن ذلك منذ البداية، وبينت هذه الفوائد كي تسكت الأصوات المنادية وتضع "حصوة" في أعين الناقدين لها والمزاودين عليها، وتكفي الجميع شر التراشق بالاتهامات.
مثال ثالث.. قيل إن محكمة الجنايات الدولية ستبدأ التحقيق في ملفات الاستيطان والمجازر الصهيونية، التي ارتكبت في قطاع غزة خلال عدوان صيف 2014 وفي الضفة الغربية، بدءا من الصبي محمد ابو خضير وعائلة دوابشة والاعدامات الميدانية اليومية ضد العشرات من الشباب الفلسطيني والاعتقالات العشوائية والادارية وهدم المنازل الخ…
وأوهمنا بأن منظمة التحرير والسلطة سلمت ملفات لمحكمة الجنايات الدولية لنكتشف لاحقا وعلى السنتهم، أن أي قضية لم تقدم للمحكمة الجنائية. وما حصل حتى الآن ليس أكثر من تشكيل لجنة لاعداد هذه الملفات "عيش يا قديش.
وهذه الأمثلة ليست سوى غيض من فيض… وأخيرا فإن الخروج من هذا التيه لن يكون بالهروب إلى الامام بحثا عن مبادرات خارجية مثل، المبادرة الفرنسية التي ينطبق عليها المثل "نسمع قعقعة ولا نرى طحنا".. منذ أكثر من عام. ونعرف جيدا أن مصير هذه المبادرات الفشل، ضمن المعطيات الدولية والأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية وتعنت الحكومة الاسرائيلية واستخفافها بالطرف الآخر.
ولن يكون الخروج من التيه عبر محاولة إحراج نتنياهو، كما يأمل البعض، أمام جمهوره الأكثر تطرفا منه. فنتنياهو ومن ورائه حكومته والمعارضة نفضوا أيديهم من عملية السلام، لا رحمها الله، مع أنه لا تجوز على الميت سوى الرحمة.
لن يكون الخروج الحقيقي إلا بالعودة إلى الحاضنة الشعبية الطبيعية للمشروع الوطني الفلسطيني، والحصن الواقي له. من خلال إعادة ترتيب البيت الفلسطيني بكل ما في هذا المصطلح من معانٍ، بدءا بالمصالحة الوطنية، ونأمل خيرا أن تسفر لقاءات اليوم في الدوحة بين حمــــاس وفـــتح عن انفراج حقيقي في رأب الصدع وانهاء الانقسام، وبناء المؤسسات بجميع مكوناتها، مرورا بالاتفاق على برنامج سياسي كحد أدنى، اساسه رفد الهبة الشعبية ودعمها والارتقاء بها من أجل تحقيق أهدافها في دحر الاحتلال ونيل الاستقلال واقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وهذا يحتاج إلى قرار شجاع.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح