لم تظهر في قاموس حركات التحرر للشعوب مصطلحات غريبة مثلما ظهرت وتم تداولها في الصراع العربي الصهيوني الذي سمي فيما بعد " الصراع الفلسطيني الإسرائيلي" .
ربما تكون المفاوضات هي نتيجة حتمية لسلوك وآليات وربما تكون المفاوضات لها مفهوم استراتيجي وبعض الأحيان يمكن أن يكون تكتيكي عندما تقوم حركات التحرر بدراسة جدية لجدوى اتباع سلوك ما خارج اطار الأهداف والمبادئ والمنطلقات لحركات التحرر .
ولكن متى يكون التفاوض مثلا ً تكتيكيا ً ؟ يمكن أن يكون تكتيكيا ً عندما تكون وسيلة المفاوضات هي وسيلة من وسائل كسب الزمن لتعديل في البرامج النضالية أو اعادة صياغة البنية الداخلية وقواها بناء على متغيرات استحدثت فرضها العدو أو الظروف الإقليمية أو الدولية وبمعدل الربح والخسارة يجب أن يجنح الميزان إلى معدلات الربح وليس الخسارة وفي هذه الحالة حركات التحرر لم تمر في متعطفات خطيرة تنظيمية وسياسية وأمنية وعسكرية ولن تؤثر عليها العوامل المضادة من موافقة الطرف الآخر على مبدأ التفاوض .
أما المفاوضات عندما تتخذها حركات التحرر الوطني كغاية أو استراتيجية كان لها مقدماتها من مراحل نضالية أوجبت قطف الثمار وإجبار العدو على أن ينصاع للمتغيرات التي أحدثتها حركات التحرر أو الثورات .
وإذا ما قرنا حالة التفاوض الفلسطينية مع الكيان الصهيوني نجد لاهذا ولا ذاك بل خضعت حركة التحرر الوطني الفلسطيني قصريا ً وحددت ممراتها من خلال فرضيات فرضها العدو على حركة التحرر الوطني الفلسطيني ببعدها الداخلي والخارجي .
فعلى المستوى الداخلي أحدثت الفرضيات السياسية للعدو الصهيوني متغيرات في البنية الداخلية لحركة التحرر الوطني في بعدها التنظيمي أولا ً والقيادي ثانيا ً فلقد أراد الطرف المحافظ في داخل حركة فتح ومنظمة التحرير من أوسلو وسيلة للخروج من المأزق في البرنامج العربي ولكن سريعا ً ما تم محاربة هذا التيار في عمليات اقصاء وقتل وبذر السلوك البيروقراطي في داخل أطرها وكانت أوسلو بكل المقاييس جريمة من الجرائم الكبرى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني فلقد أرادت منها إسرائيل عملية احتوائية مساندة وأساسية لنهج اليأس وقصر النظر والنفس في القيادة الفتحاوية المتواجدة التي لاقت من اتفاقية أوسلو وسيلة لإرضاء غرورها وتثبيت أقدامها ودعم ممارستها البيروقراطية التي كانت بمثابة قتل للنفس التحرري والنهج التحرري الذي انطلقت من أجله وأرادت منها إسرائيل أيضا ً وسيلة من وسائل كسب الوقت للبرنامج الصهيوني المبني على التوسع في الاستيطان ووسيلة زرع الألغام في النسيج الثوري للشعب الفلسطيني بالإضافة إلى امتلاكها آلة المواجهة المباشرة في عمليات اغتيال لقيادات وكوادر ميدانية في حركة التحرر الوطني الفلسطيني ليسود نهج " المقتنعين بالبرنامج السياسي والورقة الإسرائيلية المعروضة " .
أما المؤثر الخارجي يكمن في طبيعة البرنامج العربي والأمني في المنطقة وله أساسيتين كان نتاجهما التراجع المميت في السياسة العربية التي قبلت ببرنامج ومقولة " الأرض مقابل السلام " أي العرب يطالبون ببعض الأرض التي هي أرضهم مقابل ما يسمى" بالأمن لإسرائيل" التي تقيم على الأرض العربية ، تراجع خطير ونكسة في البرنامج العربي الذي أثر بل كان عامل مساعد أساسي للتحولات في البرنامج الداخلي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني وهو عامل أساسي في المتغيرات التي حدثت على الصعيد الداخلي والبنية الداخلية لحركة التحرر الوطني
" الموءودة " وكذلك في البرنامج التي جعلته منظمة التحرير هدف استراتيجيا ً لها في إقامة دولة في الضفة وغزة وعلى خطوط ما قبل الخامس من حزيران وتوج هذا المفهوم بما يسمى " إعلان الاستقلال ألورقي" في الجزائر عام 1988.
إذاً القيادة الفلسطينية والبرنامج السياسي العربي ومؤتمرات القمة المعززة لتلك البرامج والتي أعطت قمة التنازل في المبادرة العربية في بيروت كان نتاجها أن إسرائيل ضاعفت الاستيطان في الضفة ما قبله من أوسلو حوالي 6 أضعاف وهددت القدس بالتهويد من خلال العمليات الجارية حول المسجد الأقصى وتخريب البنية التحتية في القدس الشرقية بالإضافة إلى الترنح السياسي للقيادة الفلسطينية والقيادة العربية أمام المشروع الاستيطاني الكبير لحكومة العدو الصهيوني وأصبحت حالة الشعب الفلسطيني إذا ما نسبت إلى برنامج قيادة اوسلو هي حالة انسانية أركانها الراتب وفك الحصار وأصبحت القضايا الرئيسية في حكم المنتهية أمام التراجع في البرنامج العربي والفلسطيني وأمام التقدم في البرنامج الاستيطاني الصهيوني فأصبحت فئة أوسلو بعد انتفاضة عظيمة للشعب الفلسطيني في 1987 وانتفاضة عظيمة أخرى عام 2000 تطالب فقط كورقة حسن نوايا بإنهاء الحواجز أو بعضها والعودة إلى مناطق ABC بناء على اطارات أوسلو ومرة أخرى اطارات خارطة الطريق الهلامية ، والتي تسمح لإسرائيل بأن تدعي دائما ً بأن القيادة الفلسطينية غير قادرة على ضبط الأمن وغير قادرة على ملاحقة رجال المقاومة نفس المبررات التي رفض الرئيس أبو عمار الانصياع لها ولأغراضها وأقرب مثال على ذلك ما صرح به نتنياهو عقب عملية القدس الغربية وما لبث العدو بالتهديد وأخرى ليلوح للسلطة الفلسطينية بأن أفضاله عليها ولأن حماس قادرة على الاستيلاء على مؤسسات السلطة في الضفة في خلال 24ساعة لولا وجود وعمليات قوات الاحتلال مما يجعل القيادة الفلسطينية المستندة إلى مبدأ التفاوض أسيرة لهذا المفهوم الذي يحافظ على وجودها ومصالحها في الضفة .
مصطلحات غريبة أتت ما بعد أوسلو " التهدئة " وكلمة التهدئة في القاموس الاجتماعي والعربي تعني تهدئة النفوس لخلاف أو شجار أو نزاع بين قبيلة أو عشيرة أو غيره لتطييب الخواطر ولم تستخدم كلمة التهدئة إلا في الصراع العربي الصهيوني فقط عن مثيله في حركات التحرر التي عرفت طريقها ووضعت أيديولوجيتها التي لم تنحرف عنها .
مصطلح سياسي خطير يؤدي إلى قمة الاذعان لشروط العدو وخططه وبرامجه التي يحاول فيها أن يستفيد من الزمن والقضية الفلسطينية هي قضية حقوق وقضية صراع لا يمكن احتواء مؤثراتها وتفاعلاتها بكلمة هامشية بسيطة تشمل التهدئة بين العدو والمطالبين بالحق وإذا كان هذا الحق مصيري فالشعب الفلسطيني يعاني ويقتل معنويا ً وماديا ً سواء داخل الوطن أو خارجه .
التهدئة تعني التخلي عن التضحية مقابل خطوات آنية تعني الأكل والشرب والصحة والراتب والمعابر ، وحركات التحرر تقدم التضحيات مقابل بتر المشكل من جذوره وليس الانصياع للبرنامج الأمريكي المفروض بأهدافه من عملية التهدئة ، فكر الارهاب للشعوب ولقادة حركة التحرر فلا حقوق مقابل حقن دماء الأبناء واستجلاب الطعام ، منطق خطير يؤدي إلى الاستسلام إلى إرادة العدو وبرامجه فلا طعم للنصر بدون تضحية للشعوب المنكوبة والمسلوبة حقوقها ، ولا أساس للنصر بدون تقديم تلك التضحيات .
لقد علق الرئيس الفلسطيني المفاوضات تحت ضغط الشارع الفلسطيني والعربي ولم يعلق تلك المفاوضات نتيجة قناعان فرضتها آليات الصراع بل في حين لم يجف الدماء في غزة ولم توقف المذابح فيها ليلا ً ونهارا ً من غارات سلاح الجو الإسرائيلي وأيضا ً تحت مصطلح لكوندا ليزا رايس"العنف لا يلغي مبدأ التفاوض" وأتت عملية القدس لتذكر أصحاب هذا البرنامج لأن كل الخطوات التفاوضية والدعوات للتهدئة هي مجرد أطروحات عبثية يجب أن يتراجع عنها البرنامج السياسي الفلسطيني والعربي أيضا ً .
عملية القدس التي أحدثت توازنا ً أمنيا ً بين الساعد المقاتل الفلسطيني بأبسط عتاداه مع القوة الهائلة لإسرائيل التي لن تستطيع توفير أمنا ً لمستوطنيها ومغتصبيها وربما ساعدت تلك العملية في اعلاء وصوت النداءات المطالبة بالتهدئة .
وفي كل الأحوال لم تستطيع السياسة العربية تقييم نفسها وكذلك القيادة الفلسطينية في رام الله أمام البرنامج الواسع للصهيونية في الضفة وحصارها لغزة ومحرقتها لأطفال غزة ومقابل وأمام الجهود الملحة والحثيثة التي تمارسها جهات عربية من أجل الوصول للتهدئة كان الرد هذه المرة من نتنياهو رئيس وزراء العدو أيضا ًحيث صرح بأن إسرائيل لن توقف الاستيطان وستستمر فيه وهذه أول الخطوات لاستثمار مصطلح " التهدئة " .
إذا ما هو المطلوب من التهدئة بمنظور الصراع ؟، هل هو المطلوب الإذعان للبرنامج الأمريكي الذي لم ولن يكون في صالح إسرائيل ، أم لكسب الوقت لإعادة تنظيم الجبهة الداخلية الفلسطينية ولأن المعركة قادمة لا محال فيها نتمنى ذلك ونحن على ثقة بفصائل المقاومة على أن تستثمر الوقت ان حدث تطبيق لهذا المصطلح الغريب على حركات التحرر والمقاومة ولكن يجب ان يتذكر الجميع التصريح الذي نشرته وكالات الأنباء المختلفة نتنياهو عندما قال "إن إسرائيل لديها القدرة والجاهزية للتعامل مع الثلاث جبهات في المنطقة " وربما لحاملات الطائرات والمدمرات على السواحل اللبنانية من المؤثرات التي أعطت الدفئ لنتنياهو ولوزارة العدو الصهيوني .
ولكن هل من مؤثرات مماثلة وتغير في البرنامج العربي نحو دعم المقاومة واعطاء الدفيء لحركة التحرر الوطني الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية؟.الاجابة متروكة للقارئ
بقلم /م. سميح خلف