على وقع الانتفاضة والبحث عن مخارج لمأزق السلطة وحكومة نتنياهو على حد سواء ، يعود الحديث مجدداً عن المبادرة الفرنسية لحل ما بات يطلقون عليه النزاع الفلسطيني – " الإسرائيلي " . تلك المبادرة التي أطلقت في أيار من العام الماضي ، ورُحبت بها في حينه السلطة الفلسطينية ، فيما رفضتها حكومة نتنياهو ، على الرغم أنها في مجمل نقاطها السبعة جاءت في صالح " إسرائيل " في نقطتين الأولى حل الدولتين المستند على اعتراف فلسطيني بيهودية الدولة ، والثانية ، الحل المتوازن لقضية اللاجئين بالإستناد إلى آلية التعويض ، مما يعني أن لا عودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ، وبذلك يكون القرار 194 بحكم الملغى . ولعلّ المكسب الفلسطيني الوحيد إذا جاز التعبير ، أن الحكومة الفرنسية سوف ستعترف بالدولة الفلسطينية إذا لم تفضي المفاوضات إلى ، والمقرر لها سقف زمني مدته 18 شهراً .
والسؤال اليوم ، لماذا أعيد طرح المبادرة الفرنسية في هذا التوقيت ، خصوصاً أن العالم بدوله النافذة منشغلة بملفات تجد فيها اليوم أنها على درجة من الأهمية أكثر من التسوية السياسية على الجانب الفلسطيني " الإسرائيلي " . صحيح أن هناك تراجع ملحوظ في الاهتمام الدولي والإقليمي بالقضية الفلسطينية ، ولكن ليس إلى درجة تركها من دون ضابط لها يُمسك بها حتى لا تنفلت إلى مكان غير محسوب من شأنه أن يطغى أو يؤثر بشكل مباشر على مسار الأحداث في المنطقة ، بمعنى أن يُعيد تسليط الأضواء نحو فلسطين وعناوينها من موقع أن القضية الإستراتيجية للأمة الغارقة دولها في آتون حروبها المدمرة .
فعودة الحرارة المنخفضة للحديث مجدداً عن إيجاد الحلول للتسوية المتوقفة بين السلطة وحكومة نتيناهو مرده الخوف مما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من انتفاضة آخذة في الاتساع التدريجي ، لذلك أعادت فرنسا طرح مبادرتها ، ولكل الأطراف المعنية حساباتها التي تنطلق من خلفية مصالحها . فالرئيس الفرنسي " جيرار هولاند " ومن موقعه كصاحب المبادرة ، هو يسعى إلى إنهاء رئاسته بإنجاز هام بوزن الموضوع الفلسطيني ، عله يتساوى مع الرئيس الأمريكي أوباما الذي حقق منجزين تاريخيين الأول تمثل في عودة العلاقة مع كوبا ، والثاني تمثل بتوقيع الاتفاق النووي بين دول أل 5 + 1 وإيران . ولكن الخطوة الفرنسية لم تأتي لأن الإرادة السياسية الفرنسية أصبحت طوع بنان الرئيس هولاند وأركان حكمه ، بل برضى وقبول أمريكي في إنشغال الأخير بملفات أكبر وذات حساسية عالية ، وهذا لا يعني بمطلق الأحوال أن الأمريكيين قد وضعوا الملف الفلسطيني – " الإسرائيلي " في عهدة الفرنسيين ، والمسألة لا تتعدى مشاغلة وتحريك لمياه المفاوضات الراكدة ، وما يعطي المبادرة الفرنسية هذا الاهتمام والحديث عنها هو مستجد الانتفاضة التي فاجئت الجميع .
وهنا في الحسابات الأمريكية في موضوع أخذها علماً بالتحرك الفرنسي تعلم علم اليقين أنها لا تتعدى مسألة تقطيع الوقت ، إن لم يكن في مقدورها دفع السلطة الفلسطينية إلى وقف الانتفاضة ، أو إبقائها في دائرة محدودة دون توسعها .
وما تصريحات اللواء ماجد فرج ، وتأكيدات رئيس السلطة عما بذلته وتبذله أجهزة أمن السلطة في ضبط الأوضاع ، وإفشال 200 عملية فدائية واعتقال مائة فلسطيني كانوا ينوون تنفيذ عمليات ضد الاحتلال ومستوطنيه ، والتمسك بالتنسيق الأمني ، إلاّ دلالة على حجم الإطمئنان الأمريكي من أداء السلطة وأجهزتها ، وعليه أي الإدارة الأمريكية ليست في عجلة من أمرها وهي غارقة في ملفات أعقد وأخطر .
وأيضاً هنا نتنياهو لا يبدي حماسة اتجاه المبادرة الفرنسية وإن هو يوارب في الحديث عن المبادرة ، وفي الأصل يرفضها منذ أن طُرحت في العام 2015 ، ومرد ذلك أن نتنياهو يعلم أن لا راعي لملف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية سوى الإدارة الأمريكية وهي تحتكر حصرية ذلك . على الرغم من مآزق حكومة نتنياهو بسبب الانتفاضة وتصاعد أعمال المقاومة ، إلاّ أنه غير مستعجل في استئناف أية مفاوضات وهو في الأصل لا يريدها ، وإن وافق عليها سابقاً فهي لتقطيع الوقت وتلميع صورته في ظل تنامي المقاطعة ل" إسرائيل " واتساع رقعتها . ولكن على عكس الصحافة العبرية التي لم تتحمل مجرد الحديث عن نية فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فشلت جهود المؤتمر الدولي حول " حل الدولتين " ، فشنت حملة على وزير الخارجية الفرنسية " لوران فابيوس " ، وفرنسا تمارس بيع الوهم والأحلام الوردية للسلطة الفلسطينية ، ولو كانت فرنسا جادة في الاعتراف بالدولة الفلسطينية ، فهي لا تحتاج لذلك ولديها قرار البرلمان الفرنسي الذي صوتّ لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية .
يبقى من بين المعنيين السلطة الفلسطينية ورئيسها الذين رحبوا بالمبادرة الفرنسية ، وهم على علم وإطلاع على تحمله من مخاطر تتعلق بالاعتراف ب" يهودية الدولة " ، الأمر الذي رفضته السلطة سابقاً ، ناهينا عن موضوع ملف اللاجئين وحله وفق معايير سقفها التعويض على جموع الستة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين . خصوصاً أن المبادرة لم تحمل جديد منذ أيار الماضي ، وعليه لماذا وعلى ما تحمله هذه المبادرة من مخاطر ، السلطة رحبت به ووافقت عليها ؟ ، وهل أن الخيارات البديلة لدى السلطة هامشها ضاق أو مغلق ؟ . لابد من التأكيد أن ما تعيشه السلطة من أزمات ومآزق سياسية هو من صنع يدي السلطة ، بسبب الراهنات البائسة على مسار سياسي تفاوضي ثبُت وباعتراف أركان السلطة عمقها وعبثيتها ، وبأنها مضيعة للوقت على حساب الحقوق والعناوين الوطنية الفلسطينية .
لذلك السلطة الفاقدة للإرادة السياسية ليس أمامها سوى الموافقة من خلفية أنها تريد إحراج المجتمع الدولي ، والمراكمة على إيجابياتها في التعاطي المرن مع المبادرات الدولية ، والتي من المؤسف أنها تأتي في مطلقها على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته . مضافاً لذلك أن السلطة تعتقد أن طريقتها من شأنه كشف نتنياهو أمام المجتمع الدولي ، على أنه الرافض للتسوية والحلول التاريخية بين الفلسطينيين و" الإسرائيليين " .
أما في الخيارات ، السلطة لديها خيارات وأوراق كثيرة ، فيما لو أحسنت استخدامها وتوظيفها لكان الحال الفلسطيني أفضل بكثير . وهذه الخيارات لا زال في المستطاع سلوكها ، ولكن عود على ذي بدء ، السلطة ورئيسها هم من يغلقون باب تلك الخيارات بوعيهم وإرادتهم وعن سابق تصميم ، وهي بذلك تبيع الوهم للشعب الفلسطيني ، كما باعت الحكومة الفرنسية الوهم للسلطة ورئيسها ، وهنا الحق ليس الفرنسيين ، بل الحق على من يسارع الخطى باتجاه الأوهام وسرابه .
بقلم/ رامز مصطفى