في عدد من مقالاتي السابقة تناولت مجموعة من القرارات التي اتخذها، منفردًا، نائب من القائمة المشتركة، أو منفصلًا أحد مركباتها، بدون مشاركة باقي الأعضاء، أو مشاطرة القرار من قبل كل الأحزاب الشريكة في القائمة، وكان دافعي وراء التطرق لتلك الظاهرة، (مشاركة النائب غطاس في أسطول الحرية، مقاطعة القائمة المشتركة لدعوة الرئيس ريفلن، زيارة النائب أيمن عودة لأمريكا وغيرها)، ما رافقها من عفوية مثيرة أو فصائيلة ضارة أو ما بدا عليها من تيه تنظمي يستوجب التفاتة وتقويمًا.
واليوم، ها أنا أعود لأكتب عن واحد من فصول تلك الرواية الحزينة الذي سينسى، حتمًا، في زحمة الأسى الفوار، ويُترك للزمن بلا "عتاب ولا شجن".
ففي مطلع فبراير الجاري لبى نوّاب حزب التجمع الوطني الديمقراطي الثلاثة دعوة قدمتها، في الأصل، لجنة أهالي الشهداء في القدس لجميع أعضاء القائمة المشتركة.
وكما في العديد من هذه المناسبات لم نقرأ قبل انفجار "المرارة"، عن تلك الدعوة ولا عما دار، إذا دار، حولها في أروقة القائمة المشتركة، من نقاشات، تَوأمت، في الواقع، رأسين وممارستين، فنوّاب التجمع انفردوا بقرارهم ولبوا الدعوة، بينما رفضها باقي زملائهم، وتركونا، نحن الشعب، نغرق في لجّة كلها التباس، ونعايش مشهدًا عبثيًا يزيد في وجوهنا حروقًا على نمش.
وقبلما ألج إلى ما يثيرني في هذه الحادثة، أود التأكيد على حقيقتين هما أدوم من بديهية، فلا نقاش حولهما، وإني إذ أوكدهما فهذا من باب الحيطة والحذر من سوء فهم القارئ أو من إعوجاج بنيوي في فهم البعض منهم؛ فاحتجاز الجثامين الفلسطينية والمماطلة الإسرائيلية بتسليمها إلى عائلاتها الثكلى، عمل غير أخلاقي ولا إنساني ولا قانوني، ولا يفسره إلا حقد محتل باطش، فقد البصر بعدما تعطلت بصيرته، والتضامن مع العائلات ومساندة مطلبها بتسليم الجثامين أمر مشروع ومفهموم ولا تشوبه غضاضة بالمطلق، وإن شئتم فهو واجب إنساني، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، كان انفلات جوقات النبّاحين على أعضاء الكنيست الثلاثة أمرًا طبيعيًا ومتوقعًا، ومن من السياسيين لم يتوقعه فهو في السياسة هاو أو مجازف، ومن استفزه ذلك، كجندي الميادين، فهو في الحرب طبال وعازف.
لقد كان غير الطبيعي هو استهجان البعض من تلك الهجمات وانفعالهم من كونها قيدت من بيت رئيس حكومة إسرائيل بشخصه، حتى شملت أصغر الفاشيين في كل شارع وميدان وواد. استغراب المستغربين هو موقف غريب ومفجع، لأنه يعكس عمليًا قصورًا في تقييمهم، وبعضهم كتاب وإعلاميون وقادة، لواقعنا كعرب في الدولة، وعدم استشعارهم كم هي قريبة الهاوية، ولعله يفسر سبب انخراطهم المتكرر في نشاطات، بحرية وبرية، كانت نجاعتها منذ البداية، مجلجلة أو مستورة، موضــــع تشكك وتساؤل، وصارت نهايتها ورطة تعدت أطــــراف الحزب وشؤونه، فاستنفرت حناجر القبيلة وألزمت الشركاء بالتعاضد وبنصرة أخيك محقًا كان أم غافلًا نزقًا، والأنكى أنها أتاحت للبعض فرصًا، كما حصل أيضًا في لقاء نواب التجمع مع عائلات الشهداء، كي يعيدوا اكتشاف العنصرية الإسرائيلية ويكررونها مسوغات مستهلكة باهتة، في معرض دفاعهم عما قام به حزبهم وقادته.
طعن اللسان أنكى من طعن السنان
من المهم أن نوضح أن النقاش الذي استوجبه لقاء نواب التجمع مع لجنة أهالي الشهداء، لا يتمحور حول فعل التضامن وإسناد مطالبة هؤلاء باستعادة الجثامين، بل بما أحاط هذا اللقاء من ذبذبات وضباب وتعتيم، ومن طريقة عرضه بلغتين وبصورتين تستهتران بعقول البشر وبأعضاء الحزب أولًا؛ فمن قرأ بيان التجمع، الصادر بعد تسعير هجمات اليمين وقادة الدولة عليهم، يستطع أن يشعر بلهجة زهو وطني وتشاوف على باقي النواب الذين لم يلبوا الدعوة، كما أنه جاء خاليًا مما سمعناه في المؤتمر الصحافي الذي انعقد في الكنيست بمشاركة جميع أعضاء المشتركة، ورئيس لجنة المتابعة العليا، وما استعرضته لائحة التجمع الجوابية التي قدمت إلى لجنة الطاعة دفاعًا عنهم وتفسيرًا لما قاموا به، التي أتصور أنها مشابهة لما سمعناه شفهيًا منهم، إذ أنهم أكدوا على أن لقاءهم ذوي الشهداء كان لقاء عمل! ولم يستهدف تعزية أولئك الآباء، ولا التعبير عن دعم النواب لما قام به أبناؤهم، وأردفوا، معززين ادعاءاتهم تلك، بواقع أن اللقاء تم في ناد عام وليس في بيوت العائلات، أو في خيم العزاء، وهو ليس إلا مجرد تلبية لدعوة استهدفت فقط توصيل أصوات تلك العائلات إلى المسؤولين الإسرائيليين، خاصة إلى وزير الأمن الداخلي؛ علاوة على هذا، فقد أضافوا وأفاضوا، أن وقوفهم دقيقة حداد وتلاوتهم للفاتحة لم تكونا من أجل أرواح هؤلاء الشهداء وعليها، بل هي مجرد استجابة أوتوماتيكية لعادة متبعة عند العرب المسلمين تقضي بوقوف المجتمعين مع بداية كل حدث واحترامًا لجميع الموتى الفلسطينيين ومن قتلوا عبرالأجيال، خلال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
يثيرني هذا التضارب الواضح بين ما استرصده، منذ البداية، حزب التجمع من وراء هذا اللقاء، وبين ما انتهى إليه في الواقع، فحسب ما سمعناه وقرأناه على لسان قادته، كان اللقاء مجرد مهمة عمل برلمانية لأعضاء في كنيست إسرائيل مع عائلات فلسطينية مقدسية ثكلى استدعتهم لينقلوا صوتهم إلى ساسة إسرائيل بهدف استعادة الجثامين. ولم يكن هذا اللقاء من أجل التعزية ولا من أجل التضامن ولا حتى من أجل الترحم على موتى تلك العائلات، لأن أعضاء الكنيست الثلاثة يعارضون مبدئيًا وأخلاقيًا المس بالأبرياء، كانوا من كانوا، هكذا كتبوا وأكدوا.
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة
ما استعرضته أعلاه يكشف عن عدة مساوئ مستشرية في حياتنا السياسية، وهي ليست حكرًا على حزب التجمع، وأعود إلى ذكرها مرة تلو المرة لأنها أمراض مستفحلة وتعود بالخسائر الجسيمة علينا كأقلية عربية في إسرائيل، ففي حالتنا هنا هي، من دون شك، أكبر من مجرد خلل في تصرف حزبي أخلاقي مشروخ، وموقفين نقيضين مدعيين لا يتزاوجان: عمل برلماني إسرائيلي مجاز ومرغوب، أو إقدام وطني فلسطيني متميز ومشتهى، وكما جاء في الاعلانات الحزبية "تحد لتحريض نتنياهو وبينت وليبرمان ولن يغير التجمع مواقفه قيد أنملة".
لم نسمع كيف عالجت القائمة المشتركة شأن الدعوة التي وجهت إليها وكيف ولماذا أختلف الموقفان: ثلاثة أعضاء من التجمع يلبون الدعوة وثلاثة أحزاب تستنكف عنها. لكننا، وهنا القضية أخطر وأعوص، لم نقرأ لغاية اليوم ما يمكنه أن يفيد الشعب وينضجه، وأخشى أننا لن نقرأ عن ذلك أبدًا. فاذا صدق التجمع بما قاله في معرض تبريره للزيارة لماذا كانت منه كل هذه الهيصة والزفة الوطنية؟ وإذا صدق إعلامهم بما كتبوا، فلماذا استنكف جميع النواب عن المشاركة في ذلك العمل الوطني المقاوم؟
ولكن تفيض النفس عند امتلائها
القيادة الحكيمة هي التي لا تراوح بين مخاجلة ومزايدة، فقد كان من الطبيعي أن يقف جميع أعضاء القائمة المشتركة في وجه الانفلات الأرعن لتلك الجوقات الضارية على حزب التجمع ونوابه، ومن الطبيعي أن يؤكدوا على همجية تلك الهجمة وخطورتها، ولكن هذا لن يعفي القيادة الحكيمة من مواجهة هذه المغامرات المتكررة وغير المحسوبة، فالهجمة الفاشية في حالتنا هنا، هي ردة فعل، ويبقى الفعل هو شأننا وموضوعنا، وهو بحاجة إلى نقاش وخلاصات، ومع أننا على يقين أن العنصريين ليسوا بحاجة إلى أفعال منّا كي يجسدوا عنصريتهم، والفاشيون ماضون في منزلقهم من دون طعم تقدمه لهم "الضحية"، إلا أننا، وكما قلنا في الماضي نؤكد، أن أصحاب الحق يجب أن يقاوموا جلاديهم بذكاء ودهاء وبفطرة سليمة تبقيهم كي يعيشوا ويستلوا حقوقهم بجدارة، وإلا فقد يموتون وهم يراوحون بين روايتين/ كذبتين وحقيقة!
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس