غيتو عصري اسمه اسرائيل

بقلم: عماد شقور

خرج اليهود من الغيتو، ولم يخرج الغيتو من اليهود. ولما كان كل تعميم خاطئا، سواء تعلق الامر باليهود او بغيرهم، فان الصحيح هو: لم يخرج الغيتو من نسبة عالية من اليهود في اسرائيل. ويبقى، بعد الصحيح، ما هو أصح: ان نتنياهو، مدعوما باكثر الحكومات الاسرائيلية عنصرية، يعمل جاهدا على اعادة اليهود إلى الغيتو.
"الغيتو" كلمة ايطالية الاصل، تعني معمل صهر وسبك المعادن. وفي مدينة فينيسيا (البندقية) الايطالية، سكن (او قل استوطن) يهود المدينة في حي مغلق خاص بهم، قريب من ذلك المعمل، في تلك المنطقة الفقيرة في المدينة، في القرن السادس عشر، منعزلين عن غيرهم من السكان. واطلق الايطاليون على ذلك الحي، في حينه، اسم "غيتو". وصارت هذه التسمية تطلق على الاحياء اليهودية في مدن اوروبا، ثم تطور معنى هذا التعبير مع الزمن والاحداث، ليعني في لغتنا العربية اليوم: المَعزِل. وهذه كلمة سلبية المعنى والمدلول والاشارة، تذهب بالفكر إلى "العزل الصحي" و"الحجر الصحي" المفروض على من او ما اصيب (او هناك شك باصابته) بداء معدٍ، سواء كان هذا انسانا او حيوانا او نباتا او حتى حجَرا سقط على الكرة الارضية من نيزك او شهاب.
بعد مرور اكثر من سبعين سنة على انتهاء حقبة التمييز العنصري ضد اليهود في اوروبا، وبعد نحو سبعة عقود متواصلة من التمييز العنصري اليهودي ضد الفلسطينيين، وبعد كل هذا الزمن الذي مرّ على زوال ظاهرة الغيتوات العنصرية في اوروبا، وحصر كلمة "غيتو" في القواميس، يأتي نتنياهو نافخا الروح في هذه الكلمة المقيتة، وليس بدون خجل فقط، بل بتفاخر واعتزاز، و"مبشِّرا" بانه يعمل على احاطة "كل اسرائيل" بجدران واسوار وموانع وعوائق، وذلك من اجل ان "نحمي انفسنا من الحيوانات المفترسة المحيطة بنا".
قبل ايام، وتحديدا: يوم الثلاثاء 9.2.2016، قام نتنياهو بجولة تفقدية لمشروع اقامة جدار على الحدود الشرقية لـ"امبراطورية اسرائيل العظمى"، (التي تضم ما اقرته الشرعية الدولية لها و27٪ من ارض فلسطين التاريخية، والضفة الغربية ومنطقة القدس الدولية، وقطاع غزة، وهضبة الجولان السورية، ومزارع شبعا اللبنانية).
رافق نتنياهو في هذه الجولة، لتفقد سير العمل في اقامة جدار من مدينة ايلات (ام الرشراش الفلسطينية)، ولغاية ثلاثين كيلو مترا شمالا، حتى مشارف جنوب البحر الميت، وحيث المخطط لاقامة مطار في المنطقة المحاذية للحدود مع الاردن، عدد من العسكريين الاسرائيليين، الذين تنوء اكتافهم بنجوم وتيجان وسبلات لا تحصى، وتنوء صدورهم بنياشين ترمز إلى "بطولات" في معارك ضد مدنيين محاصرين منزوعي السلاح. في هذه الجولة قال نتنياهو (ولا اقول لا فض فوه) بالحرف: "في دولة اسرائيل كما اراها، سيكون في نهاية الامر جدار يحيط بها كلها. يقولون لي: هل هذا هو ما تريدونه للدفاع عن الفيلا؟ (اشارة إلى توصيف ايهود باراك لاسرائيل انها فيلا وسط غابة)، جوابي هو: نعم. هل سنحيط كل دولة اسرائيل بجدار وعوائق؟ جوابي هو : نعم. في هذا المحيط الذي نقيم فيه، علينا الدفاع عن انفسنا من الحيوانات المفترسة".
عن أي "حيوانات مفترسة" يتحدث نتنياهو؟ هل هناك من يترجم له من العربية قول الشاعر السوري الارمني، اديب اسحق، "قتل امرئٍ في غابة // جريمة لا تُغتَفر… وقتل شعبٍ آمن // مسألة فيها نظر؟". هذه سياسات تدجيل، وتعابير دونية، يختبئُ خلفها جزّار يُلحّ على انتزاع ثوب ضحيتة ليرتديه، ويسبغ على نفسه صورة الضحية التي تستدر عطف العالم وتعاطفه. واذا كانت هذه السياسة الاسرائيلية قد انطلت على العالم لاكثر من ثلاثة اجيال، فان كل العلامات تشير هذه الايام إلى بُطلان مفعول سحرها ودجلها.
قبل نحو عقدين من الزمن، عاد المنظّر الفلسطيني الكبير الراحل ادوارد سعيد، في زيارة لوطنه فلسطين. كانت اولى وإحدى اذكى ملاحظاته التي سجَّلها، انه فوجئ بكثرة وكثافة الجدارات والاسوار والاسلاك الشائكة والمكهربة في اسرائيل، والتي لم يرَ من قبل مثيلا لها في أي بلد في العالم.
وقبل عام تقريبا كنت مع صديق لي في مقهى في مستوطنة لوطِم التي اقيمت إلى الشرق من بلدي سخنين، وعندما اردنا مغادرة تلك المستوطنة، فوجئت بان للوطِم هذه سورا وجدارا، وكذلك بوابة تقفل ليلا، ولا يتم فتحها لدخول او مغادرة إلا بامر من جهة امنية ما. اثارتَني هذه الحقيقة المفجعة، وعادت بي الذاكرة إلى ما كنا نتندر به، من ان آخر ملوك "اليمن السعيد"، الإمام يحيى حميد الدين، ( الذي اطاح به وبحكمه عبدالله السلال سنة 1962)، كان يقفل باب السور المحيط بعاصمته صنعاء كل مساء ويعيد فتحه في الصباح التالي. لكني لم اكتف بالتندر وقمت بجولة تبين لي فيها ان جميع المستوطنات المحيطة بسخنين وعرابة البطوف ودير حنّا،(هذه البلدات الغالية التي ارجو ان تصبح لاحقا مدينة "سعد")، محاطة باسوار وجدران وباسلاك شائكة، ولها بوابات تقفل وتفتح باوامر عسكرية امنية.
هكذا هي حالة مستوطنة "لوطم" إلى الشرق الشمالي من بلدي سخنين، وهكذا هو حال مستوطنة "هَرَريت" إلى الجنوب الشرقي من سخنين، وحال "سيغف" غرب سخنين، وحال "يوفاليم" شمال غرب سخنين، وايضا حال مستوطنة "يودفاط" المقامة على اراضي سخنين ايضا في منطقة الجفات، والتي شهدت في سنة 70 ميلادي المعركة الاخيرة التي مهدت للقيصر الروماني طيطوس، ما يعتبره التاريخ اليهودي خرابا ثانيا للهيكل في القدس. لكن لهذا الموقع والمستوطنة، قصة تاريخية يجب ان تُروى. (ففي هذه المنطقة احتشد، حسب الرواية التاريخية اليهودية، عدد كبير من المقاتلين اليهود بقيادة يوسي بن مِتّتياهو، وتحصّن آخر اربعمئة مقاتل منهم في مغارة في منطقة الجفات. ولما تأكد هؤلاء ان لا امل لهم في دحر الجيش الروماني، اشار عليهم قائدهم يوسي بن متّتياهو بالانتحار، على ان يقتل كل واحد منهم من يليه في المرتبة، وهكذا كان إلى ان وصل الدور إلى متتياهو ومساعده.
إلا ان متتياهو نفسه لم ينحر ولم ينتحر، وفضّل الاستسلام للجيش الروماني الذي اخذه اسيرا إلى روما، وطاف به شوارع المدينة، ثم اودعه السجن. وبعد ذلك أُلحق بمكتبة القيصر، اثر اكتشاف مواهبه واتقانه للعديد من لغات العصر. في تلك المرحلة تعرف متتياهو على ابنة القيصر التي أُعجبت به، فاحبته وتزوجته، فغيَّر اسمه العبري يوسي بن متتياهو، إلى اسم روماني هو يوسيفوس، وغيّر دينه اليهودي، حيث عبد آلهة الرومان. ويوسي/يوسيفوس هذا، يعتبره اليهود حتى ايامنا هذه اول واشهر مؤرخ يهودي، وتكفلت احدى اهم دور النشر الاسرائيلية مؤخرا، بترجمة وشرح ونشر ما كتبه عن تلك الحقبة وما سبقها).
يؤمن كثيرون من اليهود، انه قبل مئات كثيرة من السنين، اخرج نبيهم موسى اليهود من العبودية في مصر إلى صحراء سيناء، استعدادا لاحتلال فلسطين. لكن موسى تاه وتوّه "بني اسرائيل" في سيناء اربعين سنة. وكثيرون من المفكرين اليهود وغيرهم، يعتقدون ان ما كان ليس تيهاً ولا توهانا. يعتقدون ان "السيد" المصري تأقلم وتعايش مع انتهاء دوره كـ"سيِّد"، ولكن اليهودي الذي اعتاد حياة العبودية ظلَّ عبداً في اخلاقه وتصرفاته، حتى بعد ان لم يعد له سيّد، ولذلك قرّر موسى "التوهان" في الصحراء اربعين عاما، إلى حين يموت ويزول جيل يهودي كامل اعتاد على حياة العبودية، ويولد جيل يهودي حُرٌّ جديد، تمكن بقيادة يشوع بن نون من احتلال فلسطين، مع كل ما رافق ذلك من جرائم وفظاعات.
ويبدو انه كما في روايات التاريخ كذلك هو الحال في هذه الايام: الغت العنصرية الاوروبية غيتوات اليهود، ولكن نتنياهو يعود به "الحنين" لزمان مضى، فيشيّد لنفسه وليهوده غيتو عصري اسمه اسرائيل.
لن تحمي الجدران والاسوار والاسلاك الشائكة وامثالها اسرائيل والاسرائيليين. ما يحميها ويضمن مستقبل ابنائها واحفادها، هو قبول الفلسطينيين والعرب لها. وذلك ما لن يتم ويتحقق دون الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، واولها حقه في تقرير المصير، واقامة دولته الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس العربية.

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور