الاجتياح ... تاريخ صمود وتضحية

بقلم: عباس الجمعة

تفجاءت بعرض قناة الميادين بفلمها الوثائقي عن ذكرى الاجتياح الصهيوني للبنان صيف عام 1982 في لحظة فاصلة من تاريخ المنطقة، والصراع العربي الإسرائيلي، ومن خلال شاشاتها، في عملٍ ملتزم رصين تلقي الضوء من خلاله على مرحلة مهمة وتاريخية من حياة العالم العربي، ولكن تجاهلت بعض الاحزاب والقوى اللبنانية والفلسطينية التي كان لها دور بارز في التصدي للعدو الصهيوني ومنها جبهة التحرير الفلسطينية .

ونحن نؤكد تقديرنا لقناة الميادين باعتبارها قناة فلسطين وخاصة انها تنقل وقائع تاريخية وخاصة ذكرى الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 في لحظة فاصلة من تاريخ المنطقة، والصراع العربي – الصهيوني، ومن خلال شاشاتها، وهي بكل تأكيد على مرحلة مهمة وتاريخية تمر بها القضبة الفلسطينية وفي ظل صمت و سكوت مريب عما يجري في فلسطين، وبعد ان اصبحت القضية الفلسطينية في آخر اهتمامات العالم المسؤول عما جرى فيها من مأساة، وعما يمكن أن يجري فيها من مآس يومية متكررة .

ففي الوقت الذي تتمذهب فيه الصراعات، وتضيع فيه البوصلات والاتجاهات، وتتفكك فيه الجيوش العربية، ويحدث ما يسمى الربيع العربي ليبعد الشعوب العربية عن القضية المركزية فلسطين، ويخرجها من الوجدان العربي، وتسحب السيوف العربية – العربية لتتقاتل في الساحات الداخلية، يبقى خنجر إسرائيل في قلب الأمة فلسطين.

تعيدنا شاشة الميادين من هنا لنستحضر ذكرى محطة مهمة في تاريخ الصراع وهو غزو واجتياح العدو الصهيوني للبنان وبيروت العربية ، وما قامت به القوات المشتركة الفلسطينية واللبنانية في بيروت عاصمة المقاومة إبان الغزو الصهيوني عام 1982 من دور في التصدي للعدوان الغاشم.

نعم ما قامت وتقوم به قناة الميادين مشكورة من اعادة البوصلة بالاتجاه الصحيح ربما يكون قد نسي جيل، أو تناسى، أو هناك من يحاول طمس ملاحم البطولة من ذاكرة الشعب اللبناني والفلسطيني الذي تماهى بأروع البطولات، وقدم نموذجاً في الصمود. تلك الحقبة المضيئة كانت مدخلاً لتأسيس مقاومات أنهت زمن الهزائم، في العامين 2000 و2006.

ومن هنا نتوقف امام غزو العدو الصهيوني للبنان عام 1982، حيث تصدى مقاتلي القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية في الجنوب وتحديداً في مخيمات الرشيدية والبص والبرج الشمالي وعين الحلوة وخلدة للقوات الغازية الصهيونية ببسالة واستمرت المعارك أسابيع.

ففي غضون أيام قليلة، أو ساعات معدودة كان قد تجمع مَن استطاع الوصول من المقاتلين الى بيروت والبقاع الشرقي، وقد حصلت معارك مشرّفة حول المخيمات الفلسطينية، إلى أن بدأت فيما بعد معركة بيروت التي قاومت ببسالة منقطعة النظير مدة (87) يوماً وقد أصيب الرفيق الشهيد القائد "أبو العباس" الامين العام لجبهة التحرير الفلسطينية في رأسه بعد تعقبه في الأماكن

التي كان يحتمي بها، إذ لم تتوانى طائرات العدو الصهيوني عن تدمير بناء كامل مأهول بالسكان من أجل وصول صاروخ إلى مكان وجوده حيث كان يشكل هذا المبنى عائقاً لهم من أجل ذلك.قدم الشهيد "أبو العباس" إلى سوريا فوراً، أما "أبو عمار" فبعد رحلة طويلة من بيروت إلى اليونان، وعواصم عربية وأجنبية مختلفة، أيضاً جاء إلى سوريا، حيث أضحت المقاومة الفلسطينية من غير توأمها "الحركة الوطنية اللبنانية" وبعيدة عن تلال فلسطين وهضابها، وبحرها المتوسط الذي تعانق مياهه عكا وصور، وكذلك أضحت المقاومة من غير عاصمة سياسية لها.

وحتى ننصف الشهيد القائد "أبو العباس" بمنطقية عادلة دون التحيز إلى أي طرفٍ كان، حتى إليه نفسه، يمكن القول إن الشهيد كان أمامه أمرين أحلاهما مرٌ، وكان هذا ما قاله أمام الكثيرين من رفاقه فيما بعد، وذلك قبل أن يبدأ في الدفاع عن وجهة نظره التي تبلورت فيما بعد بضرورة الاستفادة من المعطيات التاريخية والإمكانيات المتوفرة ، وخاصة عندما عصفت به الحوامات السياسية أطلق صرخة احتجاج واضحة بوجه تصفية م.ت.ف وقرر السفر من دمشق إلى الكويت برفقة الرفاق عدد من اعضاء المكتب السياسي و اللجنة المركزية عدد كبير من قيادة وكوادر ومنضلي واعضاء الجبهة.

وهنا لا بد من القول أن الشهيد "أبو العباس" كان قد حسم تردده السياسي نهائياً وأكد على التمسك بالثوابت الفلسطينية وقرارات الإجماع الوطني ، وحزن على الخروج من بيروت بعد ايام من صمود وتضحية وعزة وكرامة قدمت فيها الثورة الفلسطينية والحركة الوطنيه اللبنانية خيرة مناضليها وقادتها منهم من استشهد ومنهم من فقد على يد قوات الاحتلال الصهيوني وفي مقدمتهم القائد سعيد اليوسف عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الفلسطينية الذي لم يترك ارض المعركة فكان متنقلا بين الجنوب اللبناني الى بيروت وجبل لبنان فبقى جنبا إلى جنب مع رفاقه واخوانه في السلاح من المقاتلين اللبنانيين الوطنيين الشرفاء، الذين واجهوا العدو الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة بأحدث الاسلحة الامريكية واكثرها فتكا بل والمحرمة دوليا وانسانيا في الجنوب وخلدة وبيروت والجبل ، ،حيث بفقدانه فقدنا قائدا ومناضلا يستحق اوسمة الشرف والبطولة ، ولكن صمود بيروت والتلاحم الفلسطيني اللبناني التي تكسرت فيه صخرة البطولة والشجاعة والفداء والتضحية، لابادة الثورة وابادة قواتها وابادة قيادتها، فشل فيها العدو وبقيت الثورة خفاقة بعلمها، قوية بوجودها، ثابتا جنانها باعتبارها الحقيقة الثابتة الاصيلة في هذه المنطقة المهمة والحساسة والمليئة بالمؤامرات والمحفوفة بالاخطار،ورغم فقدان قادة مناضلون كثر ينتمي بعضهم الى منظمات وأحزاب، مثل المناضل محي الدين حشيشو أحد قادة الحزب الشيوعي في مدينة صيدا، ومناضلي جبهة التحرير الفلسطينية وفي مقدمتهم حسين دبوق عضو قيادة جبهة التحرير الفلسطينية ورشيد آغا وعماد عبد الله، ورفاقهم في تجمع اللجان والروابط الشعبيه إبراهيم نورالدين، بلال الصمدي، حيدر زغيب، محمد المعلم، محمد شهاب، فوازالشاهر وصولاً الى المناضل عدنان حلواني عضو قيادة منظمة العمل الشيوعي الذي اختطف من منزله في رأس النبع بعد دخول قوات الاحتلال الى العاصمة مع العشرات آخرين من أبناء العاصمة الذين تناوب على خطفهم جنود الاحتلال والميليشيات المتعاملة معه، وكذلك حسن طه “ابو علي دلة” واخوانه الذين كانوا في الاسر ، وكذلك لن ننسى ايضا ويحي سكاف ومحمد فران وعبدالله عليان .

نعم هناك شهداء خالدون ستظل ذكراهم راسخة في وجدان شعبنا الفلسطيني والعربي وفي مقدمتهم الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات والقائد الشهيد أبو جهاد والقائد الامين العام الشهيد ابو العباس وحكيم الثورة جورج حبش والامناء العامون لجبهة التحرير الفلسطينية القادة طلعت يعقوب وابو احمد حلب وامين عام الجبهة الشعبية ابو علي مصطفى وامين عام جبهة النضال سمير غوشة والقائد سعيد اليوسف و القائد الشهيد ابو الوليد سعد صايل والقائد الشهيد عبدالله صيام والقائد الشهيد بلال الأوسط والقائد الشهيد عزمي الصغير ، كما كانت قلعة الشقيف بصمودها تكتب التاريح فيما نتذكر جنرالات الأشبال وقائدهم في مخيم الرشيدية الشهيد أبو شاكر ونتذكر الشهداء أبطال الأربيجي في مخيمات الرشيدية والبرج الشمالي ومخيم البص ومخيم عين الحلوة ونتذكر شهداء القوات المشركة وشهداء الحركة الوطنية اللبنانية ونتذكر شهداء شعبنا اللبناني والفلسطيني والعربي الذين استشهدوا في غزو العدو للبنان عام 1982 .

وهنا اتوقف امام مجزرة مخيم برج الشمالي، هذا المخيم لم يكن أوفر حظا من غيره من المخيمات الفلسطينية في لبنان، فقد لحقه الدمار والقتل والاعتقال، فكانت مجزرة نادي الحولة في 7/6/1982 أكبر شاهد على العدوان الاسرائيلي للمخيم والتي أدت الى استشهاد حوالي 93 من المدنيين ولم ينجوا سوى ثلاث نساء وتحول نادي الحولة الآن الى مقبرة جماعية واقامت الهيئة الادارية لجمعية الحولة نصب تذكاري محفور عليه أسماء الضحايا جميعاً ، مع مجزرة النجدة ومغارة ابو جعفر هذه المجازر التي تسمى اليوم بالمجازر المنسية، لأن التاريخ والعالم لم ينصفوها ولم ينصفوا ذوي الضحايا وتركوها منسية للزمن، حيث المخيم الذي صمد وقاتل لم يتخل مناضلوه من كافة الفصائل عنه ولم يتركوه ولا يزالون يحفظون له مجده ومجد شهدائه الأبرياء فاطلق عليه مخيم الشهداء.

وهنا لا بد ان تنطلق صيحتنا لكي يسمعها العالم اجمع، وبالذات الاحصنة الخشبية التي تجر في راكب القوى الامبريالية والصهيونيه ، باسم شعب فلسطين وباسم الشعوب العربية وباسم الاحرار والشرفاء في العالم اجمع، انه لا سلام ولا امن ولا حل ولا استقرار في هذه المنطقة بالقفز على جوهر المشكلة والاساس فيها حقوق شعبنا الفلسطيني الوطنية الثابتة، بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير واقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني، تحت قيادته الوحيدة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي اعترف بها من كافة المستويات الصديقة والحليفة والعربية والدولية.

فهذه المسيرة بكل ابعادها الحضارية والانسانية، تتطلب ان نشق طريقنا مع جميع الشرفاء والاشقاء والحلفاء والاصدقاء نحو دعم قوى المقاومة في مواجهة الهجمة المعادية والعمل على الوصول الى السلام العادل والوطيد في الشرق الاوسط حتى تنعم شعوب المنطقة بالاستقرار والامآن ، وليس سلام الاقوياء على الضعفاء، وليس املاء شروط الاستسلام وفرض الهيمنة والسيطرة من خلال احلام الامبراطوريات الواهية واحلام المستعمرين ومستوطناتهم وحدود الامن ومصادر المياه المؤدية إلى منابع النفط.

واليوم يخرج شابات وشباب فلسطين بمعجزتهم عبر الانتفاضة ليتردد صوتهم عاليا في المنطقة كلها، وليذهل العالم بهذا الصمود وذاك التحدي، وهذا الفهم العميق والثابت لابعاد الموقف، وليعطي الصورة الراسخة الواضحة لديمومة المقاومة في حنايا هذا الشعب العظيم، شعب

المعجزات شعب العطاء السخي، شعب الشهداء والاسرى، شعب الارادة المستقلة، شعب التضحيات الجسام، واليوم نقول سيبقى دورنا في التحالف الاستراتيجي وفي الفرز الثوري لمعسكر الاعداء والاصدقاء في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الاوسط وفي الساحة الدولية

نعم قاتلت بيروت تحت راية كوفية الرئيس الشهيد ياسر عرفات عنوانا للصمود والشموخ هو ورفاقه القادة اللبنانين والفلسطينيين، وقاومت بكل مفرداتها الثورية، الفكرية – الشعرية – الفنية، في خنادقها ومتاريسها ، وبعد خروج الثورة ارتكبت قوات الغزو الصهيوني وعملائها اكبر مجزرة في العصر مجزرة صبرا وشاتيلا حيتث امتزج الدم الفلسطيني واللبناني ، كما امتزج العود مع الرصاص، وبعدها كل قدّم إسهاماته على طريقته لمدينة السلام والحرب والحياة والموت، والشعر الذي وقف عاجزاً انتحر بشموخ (خليل حاوي)، وعلى سوار بيروت ومثلثها اختلط الدم وتعمد بين كافة الأحزاب والفصائل وغابت كل الألوان، لم يبق مرفرفاً سوى علم فلسطين.

ختاما : كل التحية والتقدير لقناة الميادين، رغم اننا كنا نتمنى ان تستضيف كافة القوى والاحزاب في فيلمها الوثائقي التي شاركت في التصدي للغزو الصهيوني وخاصة جبهة التحرير الفلسطينية والفصائل والاحزاب الوطنية اللبنانية ، وهي تنقل بنجاح حصيلة مسيرة صراع استمرت أكثر من ثلاثة عقود حافلة بالأحداث، وتعتبر علامة فارقة كونها مهدت لإنتاج مقاومة أكثر جذرية وثبات بهذا العمل الجبار (الوثائقي) الذي كشف زيف الميديا وما فعلته الفضائيات من تشويه لدور بيروت في ما يعرف بالثورات الملونة وما يسمى بالربيع العربي، بيروت كانت وستبقى عروس الشرق بقيامها ونضالها وكفاحها وهويتها العروبية المقاومة، حتى تستمر القضية الفلسطينية، وتحيا في ذاكرة شعوبنا، وتظل جذوة متقدة لا تنطفىء، فهذه ارادة التاريخ، ارادة الدم ، ارادة الشعب الفلسطيني، ارادة الكبرياء في امتنا العربية، ارادة الانتصار لكل ما هو شريف شجاع وعادل في البشرية التقدمية جمعاء، فعلينا ان نتمسك بروح تلك الأيام المجيدة، ونتمسك بمقاومتنا نهجا وخيارا وثقافة وسلاحا.

بقلم / عباس الجمعة

كاتب سياسي