تضاعف عدد المنتحرين او من حاول الانتحار اما حرقا او راميًا نفسه من فوق بناية عالية في الآونة الاخيرة ، وأضحى دق ناقوس الخطر أمرا حتميًا كما بات الوقوف عند هذه الظاهرة من قبل المختصين والباحثين امرا ضروريا.
واصبح من الواجب على اصحاب القرار في اعلى هرم السلطة بكافة فروعها الكشف عن الدوافع الظاهرة والخفية التي تجعل شبابنا في مقتبل العمر يقررون وضع حد لحياتهم بتلك الطريقة البشعة والدراماتيكية ، وعليهم ايجاد حلول جذرية للتصدي لمثل هذه الظاهرة من جهة ومساندة أهالي المنتحرين او من تولد لديهم البيئة الخصبة للانتحار من جهة أخرى.
هذا وقد كشفت الاحصائيات الاخيرة عن ازدياد الرغبة او المحاولة للانتحار ..
و ممكن تحليل أسباب الانتحار لدى الشباب في غزة في الآونة الاخيرة على وجود أسباب كثيرة ومتنوعة تختلف باختلاف الأفراد واختلاف البيئة الاجتماعية ، والظروف الاقتصادية المأسوية التي يعيش فيها الفرد. ويتبين من هذه الدراسات أن أهم الأسباب التي تدفع الى الانتحار أو محاولة الانتحار هي:
- أسباب ظرفية: يمكن ربطها بالأحداث التي يعيشها شبابنا في غزة ، انطلاقاً من الأحداث البسيطة الى الأحداث الأشد خطورة، من احتلال محيط بهم او انقسام وحصار فرض عليهم ، بالإضافة الى احداث تتعلق في أكثرها بنظام العلاقات القائمة بين الشباب وأسرهم من جهة، وعلاقاته بالآخرين من جهة ثانية. ويمكن تقييم هذه الأحداث ، من خلال رفض الأهل تحقيق بعض من متطلباتهم ، قصور الأهل المادي لشراء ما يرغب به ، او انسداد الافق امامهم بالعمل والزواج وتكوين اسرة مستقرة
- ضعف الوازع الديني عند الإنسان ، وعدم إدراك خطورة هذا الفعل الشنيع والجريمة الكُبرى التي يترتب عليها حرمان الرضا به النفس من حقها في الحياة ؛ إضافةً إلى التعرض للوعيد الشديد والعقاب الأليم في الدار الآخرة .وهذا الدور يتحمله رجال الدين -وهم بعدد الليمون – لعدم تركيزهم على الانماط السلوكية الدعوية بل على القدح والتشهير ولعن وسب وتعهير الخصم السياسي كل هذه الترهات افقدت شبابنا البوصلة وحرفتهم عن الطريق الصحيح
- غلبة الظن الخاطئ عند المنتحر أنه سيضع بانتحاره وإزهاقه لنفسه حداً لما يعيشه أو يُعانيه من مشكلاتٍ اقتصادية أو ضغوطٍ أو ظروف سيئة ،
- توجيه رسائل قاسية الى المتنفذين وقادة الفصائل والحكام واولادهم ، ومريديهم الذين يعيشون في ترف العيش في الوقت الذى انسدت الافق امام باقي شرائح المجتمع المكلوم بالانقسام الشامل حتى الوظيفي ..
- غياب الامل عند الشباب في ظل تغافل الحكومة وصراع الاحزاب السياسي والايديولوجي ، لذلك كانت التداعيات السياسية مؤثرة جدا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لم يتحملها ضعاف الحال حيث لم يجدوا سبيلا لمجابهة ارتفاع الأسعار وتراجع المقدرة الشرائية من جهة وتحمل الانفلاتات الامنية الشاملة ، وحماية سلامتهم الفردية من جهة أخرى.
- الانفتاح الإعلامي والثقافي غير المنضبط الذي اقتحم مجتمعنا المعاصر ، الأمر الذي دعا إلى تقليد الآخرين والتأثر بهم في كل شأنٍ من شؤونهم ، وهو أمرٌ غيرُ محمودٍ عواقبه .
- التأثر الشديد ولاسيما عند صغار السن ومحدودي الثقافة بما تبثه القنوات الفضائية من أفكارٍ وطروحاتٍ وموضوعاتٍ تحث بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة على الانتحار، وتجعل منه حلاً عاجلاً وسريعاً لكثيرٍ من المشكلات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها جيل الشباب .
التفرد وتقصير الحكومة وراء الانتحار:
كثيرة هي القصص الدافعة للانتحار ومتشابهة وقاسية جدا فنسمع عن شاب يعاني من قهر اقتصادي ، او خريج في ظروف قاسية شرع في توفير دخل محترم له ولعائلته قام بعمل بصطة لبيع السجائر، او عربة لبيع الكعك او المشروبات الساخنة ، الا انه تمت مضايقته من الذين يقومون بحملات ضد الباعة المتجولين وباعة السجائر لذلك قرر وضع حد لمعاناته في لحظة من اليأس.
ومما يزيد تفاقم المعاناة ان الحكومة والاحزاب السياسية لم تحرك ساكنا حتى بعد حالات الانتحار ،بل ولم يتدخلوا لمعرفة الكوامن الاساسية وراء الانتحار او محاولة انتشال العائلة من الفقر والبؤس ..
ومع تواتر حالات الانتحار وبمختلف الطرق يجعلنا نتأمل في مدى قدرة الشخص على حرق او القاء نفسه من علو ، اذا لم يكن هناك دافع اكبر من الحرق او الانتحار بشتى الطرق ، وعلى الحكومة وكلّ مكونات المجتمع المدني أن تضع حدا لمثل هذه الظاهرة والاهتمام بمشاغل المواطن البسيط ومساعدة الجهات الداخلية المحرومة ووضع برامج تنموية واضحة وعاجلة حتى لا يحرق أبناء الوطن أنفسهم، وتهدر قوى الشباب البانية للمجتمع
الانتحار رسالة رفض للواقع :
منطقيا لابد من ظروف نفسية ملائمة مهيأة للشخص عندما يقدم على الانتحار، وخاصة حينما يصل الشاب الى فقدان الهوية والشخصية أي بمعنى يرفض الشخص الآخرين ويتمسك بمبدأ معين مثلما يحدث الآن في القطاع من محاولات الانتحار ، ممكن تفسيرها انها رسالة إلى السلطات ليؤكدوا رفضهم للواقع المعاش المفروض عليهم.
لماذا زادات حالات الانتحار عند الشباب في الآونة الاخيرة ؟
بعد حوالي عقد من الانقسام البغيض يشعر الشباب الفلسطيني بنكسة في احلامه واماله ، وفقدان الثقة في المستقبل. فبعد تسارع الاحزاب في وعودها ابان الانتخابات وطرح شعارات ملؤها الأحلام الواعدة ، ظهرت آمال كبيرة مثل أمل تحسن الحياة الجماعية وتوفير مواطن العمل، ولكن كانت الصدمة ،فوجد الشاب نفسه أمام تراجع كل أشكال الحياة الاقتصادية ، ففي حياته اليومية يجد الشاب نفسه أمام تعطل الخدمات في ابسط متطلبات الحياة والتي تكاد تكون مفقودة، من ازمة كهرباء ومياه ، حتى أمنه وحاجاته الخاصة مهدّدة ، ووصل الى ذروة صراع الإحجام وتزعزع الاطمئنان على مستقبله ، وفي المقابل تزداد الاعباء الضريبية والأسعار. و لا توجد أية رؤية للانفراج عن قريب.
ومما زاد «الطين بلة» هو «المسرح الكوميدي» الذي عوّدت الفصائل السياسية الشعب على حضوره جبرا ، والشعارات الخادعة التي اصبحت شغلهم الشاغل والمناكفات السياسية المقززة ، التي اقتحمت كافة مناحي الحياة ، ومؤسسات التنشئة الاجتماعية من المسجد حتى الجامعة والمدرسة ، كل هذه الترهات خلقت شعورا بالعزوف وفقدان الثقة في الاحزاب السياسية و الحكومة ومعارضيها ..
. هذا الوضع الذي يتزامن لدى شخص له كرامة وحبّ الذات ويطمح للمستقبل ويرفض أن يكون في أسفل هرم المجتمع فإنه يرى أن تغيير المستقبل مستحيل ويتزامن كل ذلك مع فقدانه لفضاءات التعبير والاستماع والمساندة داخل العائلة وبين الأقرباء والأصدقاء. فهذه ظروف تجعله يمرّ إلى الانتحار بهذه الطريقة الشنيعة.
أخيرا ما المطلوب ؟
ومع ازياد الظاهرة في مجتمع صغير يعاني من اعلى نسبة كثافة سكان في غزة نري انه من الواجب على الجميع ملء الشباب بالطاقة الايجابية ومنحهم الصبر وهذه مهمة الحكومة والساسة والاعلاميين.
فعلى الحكومة أن توفر كل الحقوق لكل الشباب ولكل الجهات التي طالها الفقر والتهميش فالمسؤولية جماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من حقّ الجميع ويسعى الجميع على توفيرها.
ولابد من إخضاع الظواهر السلبية في المجتمع للدراسة والبحث حتى تُعرف أسبابها ودواعيها ، ومن ثم تبدأ خطوات الوقاية منها ، وإيجاد العلاج المناسب لها .
بقلم/ د. ناصر اسماعيل اليافاوي