لقد أدرك الأسرى الفلسطينيون مبكرا، أن طلبات السجان الإسرائيلي ليست قانوناً إلهياً، ولا حتى قانوناً وضعياً، ومن باب التغيير فقد اتخذوا من خيار المقاومة المشروعة وسيلة للذود عن كرامتهم، ومن أجل الدفاع عن حقوقهم ووضع حد للإجراءات القمعية التي ترتكب ضدهم، ومع تراكم التجربة والخبرات الاعتقالية، قرر الأسرى تطوير أدائهم المقاوم لمواجهة سجانيهم، فلجأوا إلى الإضرابات المفتوحة عن الطعام، رغم علمهم بأنها قد تؤدي إلى تدهور صحتهم، أو حتى في بعض الحالات إلى الموت، إلا أنهم واصلوا إضراباتهم كخيار لا بديل عنه، كلما شعروا بفشل الوسائل الأخرى الأقل ألما وضرراً. لذا لم يكن الإضراب عن الطعام غايةً بل بات الخيار الأخير غير المفضل، الذي يلجأ إليه الأسرى.
وعبر تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة كان أول إضراب جماعي ومنظم عن الطعام قد حدث في سجن عسقلان، بتاريخ 5 تموز/يوليو 1970. وقد استشهد فيه الأسير عبد القادر أبو الفحم، وقد أحدث هذا الإضراب ضجة كبيرة وتأثيراً قوياً على واقع الحركة الأسيرة، وشكّل حافزاً للأسرى وبداية للانطلاقـة الفعلية والنوعية نحو المزيد من الإضرابات الجماعيـة المنظمة عن الطعام.
إن الإضرابات عن الطعام، دوما كان يسبقها سياق طويل من التحضيرات والتجهيزات الأولية والأساسية، كالتعبئة والتحشيد وحُسن اختيار التوقيت والظرف المناسب، ودائما كان الأسرى يراهنون على وحدتهم وقوة إصرارهم، و مساندة شعبهم في الخارج، مستندين في كل ذلك إلى واقعية مطالبهم وإنسانيتها.
تلكم هي ثقافة الإضراب الهادفة، وعوامل نجاحه، التي لا يستطيع الأسرى أن يخوضوا إضرابهم دون أن يتقنوا أدواته. فالإضرابات الشاملة والمفتوحة عن الطعام، لا تستطيع أن تقوم بمنأى عن ثقافة جماعية، هي العنصر الرئيسي في حسم المعركة وتحقيق الانتصار.
وبموجب ذلك، فإن كل أسير يشعر بأن قوته لا تستمد أحقيتها وتحققها، إلا من خلال الجماعة. كل أسير هو قوي بذاته. لكن قوته تزداد وتكبر، برفدها بقوة كل أسير آخر، يشاركه نفس الهدف، وذات الوسيلة. هذا هو قانون الإضراب. وتلك هي معادلته الناجحة.
وبفعل ذلك استطاعت الحركة الأسيرة، انتزاع بعضاً من حقوقها المسلوبة وفرض وجودها، مما ساعدها على تنظيم صفوفها وترتيب أوضاعها الداخلية وتطوير ذاتها كجماعة وأفراد، والارتقاء بدورها وفعلها النضالي وتحسين أوضاعها المعيشية والحياتية. وقد بات واضحا أن الحركة الوطنية الأسيرة تعتبر الإضرابات عن الطعام استمراراً لمظاهر الثورة المشروعة ضد الاحتلال، في سبيل انتزاع الحقوق.
وفي هذا السياق فإن الجماعية في مواجهة السجان كانت هي الأساس في ثقافة الحركة الأسيرة عبر تاريخها الطويل ومنذ أن بدأت تتبلور وتتكون نواتها الأولى بعد احتلال اسرائيل لباقي الأراضي الفلسطينية عام 1967، بل وأن الحركة الأسيرة، حظَرت الخطوات النضالية ذات الطابع الفردي أو الحزبي، وحذّرت مراراً من خطورتها على واقعها ومستقبلها، وإنجازاتها التي تحققت بفعل الجماعة.
منذ أربع سنوات وما يزيد بقليل، تغير الحال في السجون، وما كان محظورا بالماضي بات واقعا، وبدأنا نرى في السجون أسرى يخوضون إضرابات فردية بمنأى عن الجماعة، كشكل نضالي فرضته أسباب ذاتية وموضوعية. إلا أنه وبالمقاييس السابقة يُعتبر شكلاً جديداً، ونمطاً دخيلاً على عادات وتقاليد وثقافة الحركة الوطنية الأسيرة، نمط يُغَّيب ثقافة الجماعية المنظمة التي كانت سائدة طوال العقود الماضية والتي بها تحققت الكثير من الانتصارات لصالح الجماعة، ويستبدلها بالفردية العفوية والعشوائية التي حققت قليل من الانجازات لصالح الفرد. لذا كان ولابد من وقفة شاملة لتقييم وتقويم مسيرة الإضرابات الفردية التي تزايدت وباتت تشكل ظاهرة داخل سجون الاحتلال. وكباقي الظواهر لها ما لها من ايجابيات وعليها ما عليها من مآخذ ومحاذير وانتقادات.
كثيرون هم الأسرى الذين أشهروا سلاح الأمعاء الخاوية في وجه السجان وخاضوا إضرابات فردية عن الطعام خلال السنوات القليلة الماضية، وأحدثوا حراكا نضاليا داخل السجون، ولعل غالبيتها العظمى كانت ضد سياسة "الاعتقال الإداري"، وشكّلت بمجموعها امتداداً طبيعياً للثورة على الاحتلال وتجسيداً حقيقياً لثقافة المقاومة خلف قضبان سجون الاحتلال. وأن جميع من خاضوا الإضرابات الفردية قد حظوا باحترامنا وتقديرنا وشكّلوا نماذجاً مشرقة في المواجهة والتحدي، وسطّروا حالات نضالية فريدة ومتميزة في التضحية بالرغم من فرديتها ومحدودية انجازاتها. لهذا نرى بأنه ولطالما قرر الأسير البدء بمعركته –حتى وان كان بقرار فردي- فإن الواجب الوطني والإسلامي، الرسمي والشعبي، الحقوقي والإنساني، يتطلب دعمه وإسناده حتى تحقيق انتصاره المأمول، والذي سيشكل انتصارا للجميع، على قاعدة تأصيل مقاومة الاحتلال في السجون ودعم المقاومين للسجان.
هذا هو المبدأ العام، ولكن في حال كان هناك موقفا جماعيا بهذا الخصوص من قبل الحركة الأسيرة مجتمعة أو من قبل الأحزاب منفردة، وأن الاسير اتخذ قرار الإضراب بمنأى عن جماعته وتوجهاتها وقرر التفرد رغما عن الجماعة. فان الأمر يتطلب حينها موقفا مغايرا بما يحافظ على جماعية الجماعة ووحدة موقفها.
لهذا فإننا وبالرغم من ايماننا بأهمية حماية فلسفة المواجهة خلف القضبان حتى وان كانت عبر "الإضرابات الفردية" التي لا نقلل من شأنها، إلا أن الأمر بات يتطلب التوقف أمامها وإعادة النظر بها، والعمل على تقييمها وتقويمها، ترتيبها وتنظيمها، وحمايتها من الفشل أو الانكسار، كي لا تفقد أهميتها وبريقها وتأثيرها واهتمام المحيطين بها. لذا يجب علينا أن نتوافق ونتفق، داخل السجون وخارجها، على قرارات واضحة بشأنها وتحدد الموقف منها، ومتى وكيف يمكن اللجوء إليها، وكيفية التعاطي معها فيما لو حدثت، بقرار من الجماعة أو التنظيم أو بقرار فردي، وأن تصبح تلك القرارات ملزمة للجميع، دون اسقاط خيار المقاومة في السجون ودون التخلي عن سلاح المواجهة و الإضرابات عن الطعام.
فالإضرابات الفردية وبالرغم مما حققته من نجاحات جزئية هنا أو انتصارات محدودة هناك، بما يخدم الفرد وقضية الجماعة أحيانا. فإن الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع أن تلك الإضرابات لم ولن تحقق انتصارات نوعية واستراتيجية للجماعة. وفي أحسن الأحوال عالجت ويمكن أن تُعالج مشكلات شخصية وفردية فقط، فيما تُبقي المشكلة العامة على حالها دون معالجة، ولم ولن تأتي بحلول جذرية لها، إلا إذا تم استثمارها بشكل جيد، وتم البناء عليها وتطويرها في إطار رؤية جماعية موحدة تتدحرج تدريجياً وبشكل منظم لتصل إلى الجماعية والمواجهة الشاملة. وما دون ذلك تبقى الإضرابات الفردية في السجون، محدودة التأثير والنتائج وذات مردود شخصي. لذا فإن خيار العودة إلى ثقافة الجماعة والبحث عن خطوات جماعية في مواجهة السجان، أو خطوات فردية ضمن رؤية جماعية تقود تدريجيا إلى مواجهة جماعية، بات ضرورة ملحة. ويجب الإصرار على ألا تصبح الإضرابات الفردية بديلاً عن الإضرابات الجماعية. رغم ما يعتري مسيرة الجماعة من انقسامات.
أدرك، كما يُدرك غيري، أن الحركة الأسيرة لم تعد بوحدتها كما كانت قبل "الانقسام"، ولم تعد بقوتها كما كانت عليه قبل "أوسلو"، فبعض القواعد تبدلت، وجزء من المفاهيم استبدلت، وكثير من الوقائع تغيرت، وعوامل كثيرة باتت تؤثر عليها، في ظل تنامي الشعور بأن هناك ما يمكن أن يخسروه غير القيد، وبسبب ذلك لم يعد بمقدورها اتخاذ قراراً جماعياً بالمواجهة الشاملة. ولربما هذا العجز هو ما يُجبر بعض الأسرى ويدفعهم نحو خوض "الإضراب الفردي" بمنأى عن الجماعة. لكن ومع ذلك وبالرغم مما ندركه ومما لا ندركه في هذا الصدد فإنني لا أرى أن نأخذ من ذلك مبرراً للتفرد واستمرار الفردية، فلا يزال هناك الكثير من القواسم المشتركة التي يمكن أن تشكل أساساً لبلورة رؤية جماعية في مواجهة السجان.
المؤلم أن الإضرابات الفردية لم تعد بمنأى عن الموقف الجماعي للحركة الأسيرة، فحسب، وإنما باتت كذلك بمنأى عن موقف الفصيل الذي ينتمي إليه "المضرب عن الطعام". و هذا ما يفسر تراجع الحراك النضالي وأحيانا غيابه داخل السجون تضامناً مع الأسير المضرب عن الطعام من قبل الحركة الأسيرة ككل، أو من قبل أفراد التنظيم الذي ينتمي إليه "المضرب"، وكذلك من قبل الفئة التي يمثلها المضرب كالمعتقلين الإداريين مثلا. بمعنى أن "الإضراب الفردي" فقد الحاضنة الجماعية وكذلك الحاضنة الحزبية ودعم الفئة التي ينوب عنها المضرب، مما يفقده أدوات الضغط والتأثير وبعض عوامل النجاح الأساسية. الأمر الذي يؤكد على أن قرار الإضراب عن الطعام يتم بدوافع شخصية دون توفر حاضنة وطنية أو حزبية. وهذا ما أدى إلى إطالته لفترات غير مسبوقة، ويؤدي إلى اضعافه وقلة نجاحاته وانتصاراته. فضلا عن انه يرهق الكل خارج السجون ويستنزف جهودهم لأجل قضية فردية، ويغيب قضايا جماعية تخص فئات أخرى من الأسرى في السجون.
لذا فانه وفي هذه الحالة لا يجوز للأسير أيا كان اسمه وتاريخه أن يقرر بمعزل عن حزبه وجماعته ويعلن بمفرده المواجهة المفتوحة، ومن ثم يطلب من الآخرين إتباعه والقيام بواجبهم تجاهه واللحاق به ومساندته. هذا أمر غير مألوف، بل وغير مقبول على الحركة الأسيرة ومكوناتها. على الرغم من أننا نرى ضرورة الحفاظ على ثقافة المواجهة وصون قيمة وأهمية معارك الأمعاء الخاوية.
إذن يمكن الاستنتاج بأن الإضرابات الفردية، لم تعد تستحوذ على اهتمام الحركة الأسيرة الغارقة في همومها ومشاكلها الداخلية وانشغالها في استقبال آلاف المعتقلين الجدد، كما وباتت هذه الإضرابات تشكل إرهاقا للمجموع واستنزافا وتشتيتا للجهود المبذولة خارج السجون. وتراجع الاهتمام بها عن ذي قبل، ولم تعد تحظى بذات القدر من الاهتمام الذي حظيت به الإضرابات الفردية قبل أربع سنوات. فضلاً عن أن الإضرابات الفردية غير مضمونة النتائج وتحمل مخاطر جمة على حياة وصحة المضربين، وتتيح الفرصة بشكل أكبر لإدارة السجون وحكومة الاحتلال للتلاعب على الانقسام الداخلي في ظل غياب روح العمل الجماعي، والاستفراد بالأسرى المضربين والانقضاض عليهم، مما يرهق المضربين ويجبرهم على دفع ثمن أكبر، في ظل ضعف التضامن الجماعي داخل وخارج السجون، ولربما هذا ما يفسر اطالة مدة الإضراب الفردي. ومخطئ من يعتقد أن النموذج الناجح يمكن استنساخه وقتما شئنا، فما تحقق من نجاح في وقت سابق، ليس بالضرورة أن يسجل ذات النجاح في الوقت الحاضر وذلك لاختلاف الظروف وتبدل العوامل المساعدة.
لم تعد الأمور سهلة كما يتصورها البعض، وهناك خطورة حقيقية على واقع ومستقبل الحركة الأسيرة، ومن واجبنا، داخل السجون وخارجها، الوقوف بمسؤولية عالية وبجرأة كبيرة أمام تحديات الواقع، وأن نرفع أصواتنا عالية ونفصح عما يدور في أذهاننا وما نخبئه في صدورنا، وأن نمتلك الصراحة والجرأة في تقييم مسيرة "الإضرابات الفردية" خلال السنوات الأخيرة بواقعية وموضوعية، والعمل على تقويمها على قاعدة أن سر قوتنا تكمن في وحدتنا، وأن الحقوق تنتزع ولا توهب، وأن ثقافة المقاومة داخل السجون وتجسيدها بشكل خلاق ضرورة لابد منها للذود عن كرامة الأنسان، ووفاء لدماء وتضحيات الحركة الوطنية الأسيرة، ومن أجل صون تاريخها وحماية منجزاتها وانتزاع المزيد من حقوقها.
قيل قديما أن الجوع كافر.. فيما هناك في سجون الاحتلال من جعلوا من الجوع ثائر
بقلم/ عبد الناصر فروانة