جونسون المتجنح

بقلم: أسامه الفرا

تعيش بريطانيا ومعها دول العالم حالة من الترقب لما يمكن أن يفضي إليه الاستفتاء الشعبي في حزيران القادم المتعلق ببقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه، رئيس حكومة بريطانيا "ديفيد كاميرون" يسعى جاهداً لإقناع شعبه بالتصويت بنعم ويحذر من عواقب "لا" وما يمكن أن تجلبه من أضرار تطول قطاعات مختلفة في بريطانيا، وخاض على مدار الأشهر السابقة مفاوضات مضنية مع الاتحاد الأوروبي من أجل اصلاحات طالب بها، أهمها يتعلق بهجرة المواطنين الاوروبيين الذين تريد لندن حرمانهم من المساعدات الاجتماعية خلال السنوات الأربع الاولى من اقامتهم في بريطانيا، وهو ما يلقى معارضة كبيرة من دول الاتحاد الأوروبي، كاميرون يريد أن ينتزع من منظومة الاتحاد الاوروبي تجاوباً مع مطالبه لإقناع شعبه بالتصويت لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

المعارضة الحقيقية التي يواجهها كاميرون لم تأت هذه المرة من حزب العمال كما جرت العادة حيث أبدى صراحة دعمه للبقاء في الاتحاد الاوروبي، بل جاءت من داخل حزب المحافظين الذي يتزعمه كاميرون، ويقود المعارضة عمدة لندن "بوريس جونسون" زميله في حزب المحافظين وصديقه من أيام الدراسة في جامعة اكسفورد، تباين الآراء داخل حزب المحافظين لا يتعلق هذه المرة حول قضية هامشية بل حول مسألة لها تبعاتها الخطيرة ليس على الحزب بل على مستقبل البلاد، حيث لا تتوقف تبعات الاستفتاء عند انعكاس نتائجه على الجانب الاقتصادي بل يطول بتعقيداته الجانب الأمنى والقانوني والسياسي، حيث ستضطر بريطانيا في حال التصويت بالخروج من الاتحاد الاوروبي لإلغاء القوانين الاوروبية المدرجة في القانون البريطاني، وسيكون لزاماً عليها إعادة صياغة منظومتها الامنية بمنأى عن الاتحاد الأوروبي بكل ما في ذلك من تعقيدات، ولن يتوقف الأمر عند ذلك بل المؤكد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيدفع استكتلندا لإعادة الاستفتاء حول استقلالها عن بريطانيا من جديد كونها ترفض فصلها قصراً عن الاتحاد الاوروبي، وخلافاً للاستفتاء السابق فإن الاسكتلنديين سيختارون هذه المرة الانفصال عن بريطانيا دون تردد.

بيان وزراء مالية مجوعة العشرين بعد اجتماعهم في مدينة شنغهاي الصينية نوه إلى أن خروج بريطانيا المحتمل من الاتحاد الاوروبي قد يشكل صدمة للاقتصاد العالمي، لم يتوان قادة العالم في التعبير عن دعمهم لبقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي، ولم يتوقف ذلك على قادة الاتحاد الاوروبي بل شاركهم قادة العالم من خارج المنظومة الاوروبية، عمدة لندن واعضاء في حزب المحافظين ممن يقفون خلف المطالبة بالخروج من الاتحاد الاوروبي اعتبروا أن تصريحات قادة العالم التي تحذر من عواقب الخروج هي محاولة للتأثير على الرأي العام في بريطانيا قبل استفتاء حزيران القادم.

ما يعنينا هنا لا يتعلق كثيرا ببقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، كون الأمر لا يلقي بظلاله الايجابية أو السلبية علينا، ولن تعلن مؤسساتنا الاقتصادية المنهكة حالة الاستنفار انتظاراً لنتائج الاستفتاء، ولن تشكل وزراة خارجيتنا خلية أزمة لمتابعة ما يدور في مدينة الضباب، وقد يتطلع البعض منا لرؤية بريطانيا تتراجع في مكانتها الدولية من باب الثأر من صاحبة وعد بلفور، لكن ما يعنينا هنا أن حزب المحافظين لم يوجه إلى عمدة لندن "جونسون" تهمة التجنح، ولم يتجرأ الحزب على وصف ما يقوم به جونسون ورفاقه بأنه انشقاق يضر بالحزب الأكثر تنظيماً في بريطانيا والذي قاد بريطانيا لعقود طويلة، ولم يطلب منهم الخروج من ابواب الحزب المشرعة لمن لا يعجبه القول، لأنهم ببساطة يعلمون أن قوة الحزب لا تكمن في حجم التصفيق والتطبيل بل في قدرة الأفكار على التفاعل بين أروقته والتماس مع طموحات شعبهم، ولم يجد الحزب ما ينقص من قيمته في الاحتكام للشعب حول ما اختلفوا عليه.

بقلم/ د. أسامه الفرا