منذ مدة طويلة وأنا أتحاشى الكتابة عن ايران , نظرا لأنني – كغيري _ في مرحلة سابقة كنا منبهرين بالثورة الاسلامية في طهران وانجازاتها, وخاصة محاربة الشيطان الأكبر ( الولايات المتحدة الاميركية ) , وموقفا من اسرائيل ودعم الثورة الفلسطينية وحركات التحرر في العالم , على الرغم من الموقف الملتبس لدى الكثيرين من الحرب الايرانية العراقية , التي اندلعت إثر نقض ايران لاتفاق الجزائر بين ايران الشاه والعراق بشأن ترسيم الحدود , وهي الحرب التي استنزفت القوتين العراقية والايرانية لمدة ثماني سنوات , دون منتصر أو مهزوم , على الرغم من قولة الخميني المشهورة عند الاعلان عن اتفاق وقف النار وانتهاء الحرب " انني اليوم كمن يتجرع السم " , أي أنه كان يتمنى استمرار الحرب التي حصدت أرواح أكثر من مليوني جندي ومدني من الطرفين , وأدخلت البلدين في دمار كبير وضائقة اقتصادية وديون بمليارات الدولارات.
بعد الحرب الايرانية – العراقية , بدانا نلحظ التغيير من القيادة الايرانية تجاه منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح , على الرغم من الجهود الخارقة التي قام بها الزعيم الراحل ياسر عرفات لوقف تلك الحرب , والموقف الحيادي من القيادة الفلسطينية في ذلك الصراع , وهو مالم يرض ايران التي كانت تعتقد بوقوف الثورة الفلسطينية إلى جانب الثورة الاسلامية في ايران.
بعد ذلك ومع اندلاع الانتفاضة الأولى , بدا واضحا التدخل الايراني في الشؤون الداخلية الفلسطينية , وتوجيه دعمها للتنظيمات " الاسلاموية " الناشئة في الساحة الفلسطينية , مما أثر على العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة " فتح " , معتبرة ذلك جحودا ونكرانا للجميل لما قدمته حركة "فتح" والمنظمة للثورة الايرانية قبل انتصارها من حيث التدريب والتسليح .
ثم كان الانقلاب الايراني الآخر على الفصائل الاسلاموية , أولا على حركة حماس بعد اتخاذها موقفا مغايرا عن الموقف الايراني بالنسبة للوضع في سوريا , وتأييد حماس لثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد , بينما تأييد ايران بل والقتال مع قوات الأسد , فكان الضغط الايراني على حماس لتغيير موقفها , ولما فشلت في ذلك , تم وقف المساعدات المالية , وتقليص العلاقات والتعاون بين الجانبين , ورفضها استقبال خالد مشعل لرأب الصدع بين الطرفين , على الرغم من التصريحات الخجولة التي تعلن من هنا وهناك حول استمرار العلاقة.
ثم جاءت الخطوة التالية تجاه الحليف الأقوى في الساحة الفلسطينية " حركة الجهاد الاسلامي " , التي فضلت النأي بالنفس بالنسبة للصراع في اليمن , وعدم تأييدها للحوثيين , أو كما كانت تريد ايران منها , إدانة عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية والتحالف العربي والاسلامي ضد انقلاب الحوثيين واتباع الرئيس المخلوع على عبد الله صالح على الشرعية في اليمن , وهو ما حدا بالنظام الايراني إلى وقف المساعدات والدعم عن حركة الجهاد الاسلامي في فلسطين , التي كانت تعتمد بشكل رئيس على الدعم الايراني , مما أدى إلى أزمة مالية كبيرة لدى الحركة , وتراجع كبير في العلاقات بين الطرفين , على الرغم من الموقف الحيادي الذي اتخذته حركة الجهاد من الوضع في سوريا سابقا.
هذه المواقف الايرانية تجاه الفصائل الفلسطينية , لم تكن الوحيدة في تغير السياسة الايرانية , فقد وقعت ايران " الاتفاق النووي " مع الشيطان الأكبر( أميركا ) والدول الخمس الأوربية الكبرى , والذي بموجبه يتم تقليص المشروع النووي الايراني , وتبخر حلم الحصول على القنبلة النووية الايرانية , مقابل رفع الحصار عن طهران , والافراج عن مئات المليارات من الدولارات المحتجزة في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
كل هذا التغيير الحاصل في السياسة الايرانية , يأتي معززا بتصريحات القادة في طهران , أن ايران باتت تحتل أربع عواصم عربية وتتحكم في مصير بلدانها , في بغداد عبر حكومات المالكي / العبادي , وفي دمشق عبر بشار الأسد , وفي بيروت عبر حزب الله وحلفائه , وفي صنعاء عبر الحوثيين وحليفهم المخلوع على عبد الله صالح .
أما الموقف الجديد والأخير من ايران من حيث تدخلها في الشؤون الفلسطينية الداخلية , هو اعلانها في ذكرى انتصار الثورة الاسلامية في طهران , وخلال استقبالها لوفود الفصائل الفلسطينية المهنئة , أن الحكومة الايرانية قررت منح كل شهيد من شهداء هبة القدس سبعة ألاف دولار , وتقديم 30 ألف دولار عن كل منزل شهيد تهدمه قولت الاحتلال الاسرائيلي , بشرط عدم تقديم هذا الدعم عبر منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية , لأنها كما قال أحد المسؤولين الفلسطينيين " غير مؤتمنة " على هذه الأموال , وهو ما أثار حفيظة المسؤولين الفلسطينيين في القيادة الفلسطينية , وكان الرد على ايران برفض التدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية و ورفض أية أموال تأتي من غير بوابة الشرعية الفلسطينية .
وعلى الرغم من ترحيب بعض الفصائل بهذا الدعم الايراني , إلا أن الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين والمتابعين , وكذلك من أبناء الشعب الفلسطيني , اعتبروا هذا الدعم مالا سياسيا , ومتاجرة بدماء الشعب الفلسطيني , فدم الشهيد الفلسطيني أغلى بكثير من سبعة آلاف دولار , ومنزل أسرة الشهيد أبقى من آلاف الدولارات التي ستقدمها ايران لكل منزل يهدم من قبل جيش الاحتلال , فشعبنا يقدم من أبنائه وبنانته وبنيانه الغالي والنفيس من أجل فلسطين والقدس والأقصى , وليس من أجل حفنة دولارات من هنا أو هناك , فشهيدنا أغلى ومنازلنا أبقى.
بقلم/ د. عبد القادر فارس