رسالة من جندي في مهمة إلى صديقته

بقلم: علي الصالح

اخترت موضوع المقال هذا الاسبوع، رسالة بعث بها جندي إسرائيلي في مهمة هدم منازل فلسطينية، إلى صديقته، نشرتها صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية قبل أيام..
رسالة يعرب فيها هذا الجندي عن أسفه إزاء حيوانات، ولا تتحرك مشاعره وهو يرى أطفالا وأناسا أبرياء يطردون من مساكنــهم قبل تدميرها. رسالة يرى في هدم المنازل وترحيل أصحابها رأفة بهم. رسالة يصف فيها الفلسطينيين بالغزاة ولن يتردد في هدم منازلهم مرات ومرات، حتى يتعلموا أن هذه الأرض ليس أرضهم.
اختير هذا الجندي لأن يرافق جرافات الاحتلال ومراقبي الإدارة المدنية في هدم وتدمير مساكن وخيام وزرائب فلسطينيين في منطقة أريحا في غور الأردن، بزعم أن هذه المساكن والخيام والزرائب تقع في المنطقة "ج". وللتوضيح مجددا لمن لا يعرف، فإن المنطقة "ج" هي واحدة من ثلاثة أجزاء، قسمت بموجب اتفاق اوسلو الضفة الغربية.. وهي تمثل 60٪ من مجمل اراضي الضفة الغربية التي تخضع فيها السيادة بكل أشكالها الأمنية والادارية وغيرهما لسلطات الاحتلال. وهي منطقة تتمسك بها سلطات الاحتلال باظافرها وأسنانها، ربما لاستخدامها في مساومات مستقبلية. ولتبيان مدى تمسك اسرائيل بهذه المناطق ورفضها بشكل قاطع أي استثمار فلسطيني فيها، أو أي استخدام لها أيا كان مصدره، كمقدمة للمساومة بفلسطينيي 1948، أقص عليكم قصة الحمار في قرية قريوت الواقعة جنوب مدينة نابلس، الذي أزعج جيش الاحتلال ومستوطنيه، وهي ليست قصة جديدة ولكنها ذات مغزى كبير.. ففي هذه القرية يوجد حمار تعود ملكيته إلى الفلاح الفلسطيني نافز عبد الغني، الذي يسكن في منزل أقصى الطرف الغربي للقرية المتاخم لعدد من المستوطنات. وهو أقرب المنازل إلى مستوطنة عيليه التي أقيمت على أراضي القرية التي صادر الاحتلال معظمها (14ألفا من أصل 20 ألف دونم). وبسبب قرب المنزل من المستوطنة يتعرض أصحابه لمضايقات المستوطنين واعتداءاتهم شبه اليومية، التي تتم طبعا بحماية الجيش، ويتعمدون تخريب حديقتهم. وفي إحدى المرات فوجيء صاحب المنزل بقوة كبيرة من جنود الاحتلال تهاجم منزله وتقتحمه بقنابل الغاز المسيل للدموع، قبل أن يسلموه بلاغا لمراجعة الارتباط الإسرائيلي ليكتشف لاحقا أن الغرض هو تحديد مكان ربط الحمار في منطقة "ب" ومنع اقترابه من منطقة "ج"، رغم أن الارض واحدة وهو صاحبها. طبعا. هذا الاعتداء هو واحد من الاعتدات شبه اليومية التي يتعرض لها صاحب المنزل وأسرته لدفعه إلى اخلائه. أما المنطقتان الأخريان فإحداهما تسمى "أ" ومساحتها 18٪ من الضفة، وكانت تخضع اداريا وامنيا للسلطة الفلسطينية، قبل أن يستبيحها جيش الاحتلال بعد اجتياح الضفة في عملية أطلق عليها اسم "السور الواقي" عام 2002. والمنطقة الثالثة وتسمى "ب" والسيادة فيها مشتركة اسميا، اداريا للسلطة، وامنيا لسلطات الاحتلال، مع وجود رجال شرطة فلسطينية فيها للحفاظ على الأمن الاجتماعي.
نعود إلى رسالة الجندي التي يقول فيها: "عزيزتي: أنا اعرف أن الإيميل ليس الا بديلا بائسا لرؤيتك ولكن لدينا الكثير من العمل.. ففي الأسبوعين الماضيين، جرى اختياري لمرافقة جرافتين وبعض المراقبين من الإدارة المدنية في عملية هدم 100مسكن بناها "العرب" (الفلسطينيون) بشكل "غير قانوني" في غور الأردن، وتحديدا إلى الشرق من شارع ألون الواقع في السفوح الشرقية للضفة الغربية. (الادارة المدنية هي السلطة الاحتلالية القائمة على إدارة الشؤون المدنية للاراضي المحتلة جميعها ويرأسها ضابط احتلالي. وبعد مجيء السلطة الفلسطينية أصبحت أو هكذا يفترض مسؤولة فقط عن ادارة مناطق "ج" السالفة الذكر، أو هكذا يفترض لأنها تتجاوز حدودها في كثير من الاحيان. وتضم هذه المنطقة، المستوطنات والطرق السريعة المؤدية اليها وقواعد الجيش ومعسكراته).
ويكمل الجندي رسالته إلى صديقته: وقد تمت عملية الهدم بدقة واتقان في غضون اربعة أو خمسة أيام.. هل يمكنك تصور ذلك. أخيرا شعرت بأنني أفعل شيئا لبلدي وشعبي. ذهبنا إلى مناطق نائية لم أكن اعرف بوجودها اصلا.. مناطق خلابة بمشاهدها.. سأرافقك اليها يوما ما، مناطق مليئة بالينابيع والكهوف والصخور بأشكال وأحجام مختلفة موجودة هناك منذ بدء الخليقة. في هذه المناطق، الوديان العريضة والضيقة والهضاب العالية والمنخفضة، منها ما هو دائري القمة ومنها ما هو مدبب، تغطيها الزهور الصفراء ولكنني لم أشاهد زهور الاقحوان.. وأقسم بأنه يمكن أن يصبح الإنسان شاعرا في هذه الاماكن.. بشكل عام عملنا بهؤلاء العرب خيرا بتدمير بيوتهم المصنوعة من القصدير والاخشاب، أو خيمهم التعيسة المصنوعة من النايلون والحبال، مع عدد من مربعات المراحيض المتناثرة بين الصخور. لا أدري لماذا يعيشون هكذا.. شعرت بالأسف وانا أرى الأغنام.. بشكلها الجميل، تهرب في كل الاتجاهات خوفا من الجرافات وهي تهدم الأسيجة وسقوف حظائرها وزرائبها.. يجب أن يكون الرعيان لنا من الشاكرين، لأننا لم نقتل ماشيتهم. كان هدم البيوت لصالح هؤلاء العرب لانها كانت موجودة في وسط منطقة للتدريب والرماية بالذخائر الحية. صحيح أن التدريبات هناك محدودة وتتم على جزء ضيق من المنطقة، لكن الامر لا يخلو من حوادث. الامر هو الامر وعليهم أن يلتزموا به، حتى لا يلومونا لاحقا اذا ما قتل بعض من ماشيتهم أو لحق أي أذى بها جراء بعض الذخائر التي لم تنفجر. قال لنا قادتنا إن هؤلاء العرب غزوا مناطق الرماية، ولا بد من طرد الغزاة.. فهم لهم مكانهم في مناطق "أ" و"ب". فهناك مدنهم وقراهم فليذهبوا إلى هناك. فبأي حق يغزون بلدنا؟ إنهم لؤماء.. وربما يفكرون ويخططون لبناء منازل دائمة بحدائق بدلا من الكهوف والخيام التي يعيشون فيها في الوقت الحاضر. قرأت في موقع ما، أن مشكلة العرب في هذا البلد انهم يرفضون العيش في احياء من العمارات السكنية العالية.
جمعنا الرجال في جهة والنساء والاطفال في جهة اخرى.. لم تكن المهمة صعبة لانهم لم يقاوموا. النساء والاطفال كانوا تحت حراسة ليطال.. وكان ليرون هو من يراقب الرجال. راح أحدهم يصرخ ويجادل أمام خيمته.. لم أفهم ما كان يقول.. فما كان منا إلا أن مزقنا الخيمة بالسكاكين وسكبنا المياه التي كانت في الأباريق… حتى يتعلم كيف يتصرف. لم تقتصر عمليات جرف وهدم المنازل في مناطق الرماية والتدريبات. ففي بعض المناطق يبني العرب من دون تراخيص. (وهذه الحجة والذريعة التي تتخذها سلطات الاحتلال لهدم مساكن الفلسطينيين الذين يضطرون للبناء فوق منازلهم بعد أن يضيقوا ذرعا برفض السلطات منحهم التصاريح). إنها وقاحة ما بعدها وقاحة.. قادتنا قالوا لنا أن خروقات البناء يصعب السيطرة عليها.. إنها وباء. وهناك مناطق نهدم فيها بعض الخيام ليعيدوا نصبها مجددا أو بناء بركسات في مكانها. وهناك مناطق أخرى يعيدون بناء المنازل بعد هدمها بسنة أو سنتين.. ونهدمها مجددا ويواصلون البناء ونواصل الهدم.
ويقول واصفا عملية الهدم: الجرافة تهدر.. وترفع ذراعها لتنزل به بقوة على البيت فتسمع صوت تضارب الحديد بالحديد وأصوات تمزيق الخيام وحبالها.. ويتطاير النايلون كأوراق الشجر في شهر الخريف. ضربة واحدة فقط كافية لتدمير هذه البركسات… إنها تذكرني بالأبراج التي كنت أبنيها من المكعبات وانا في الروضة.. التي كانت تتهاوى بضربة واحدة مني فتطاير قطع البلاستيك والخشب في الهواء في كل اتجاه. بداية قام بعض العمال بنقل كل ما كان في الداخل من غالونات البنزين للفراش والاغطية والكراسي المكسرة وجهاز تلفزيون أكل الدهر عليه وشرب. لم نسمح للعرب بالقيام بهذه المهمة لأنهم ربما يسحبون علينا رشاشا أو سكينا. اعتقد انني بعد أن انهي خدمتي العسكرية سأتقدم بطلب للعمل كمراقب في الادارة المدنية. لأنني بذاك أستطيع أن اهدم يوميا أبنية عربية غير مرخصة. قيل لي إن هذه المهمات أو الوظائف يحظى بها بشكل عام المستوطنون.. ولكنني غير متأكد من ذلك.
بلغنا أن العديد من هذه الابنية غير القانونية، تقام باموال من الاتحاد الأوروبي الذي يمول ايضا بناء مراحيض وحظائر أغنام وخيام وأنابيب مياه. ولو لم نهدمها فانها كانت ستزود 50 اسرة اخرى من الغزاة المخالفين للقانون بالمياه. وفي أحد هذه المضارب لم نهدم مدرسة تضم كرافانين وارجوحة. لكن مدرسة بنيت من دون ترخيص بالاسمنت المسلح هدمت عام 2011. وابقي على مسجد قائم إلى جانبها، ربما لأنه مكان مقدس أو لأنه بني قبل 150 عاما.. لا أتذكر السبب الحقيقي.. حان وقت العشاء.. الكتابة عن هدم المنازل أثار لدي الحنين إليك". واذا كان لنا قراءة في هذه الرسالة نستخلص أن فرص السلام لم تعد قائمة انطلاقا من حقيقة انهم يعملون على اقناع انفسهم بغياب الطرف الآخر، الذي لا يريدون أن يروا فيه اكثر من بدو رحل غزاة طامعين بهم.. وأنهم يتربون على الحقد والكراهية والكذب والتحريض.. وهكذا يجب أن نراهم.. فلا نتوقع منهم رأفة.. ونستعد لمواجهتهم.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة القدس "العربي"
علي الصالح