لغطٌ شديدٌ دار حول الهبة الكريمة التي تقدمت بها الجمهورية الإسلامية في إيران لدعم انتفاضة القدس الثالثة، ومساندة الشعب الفلسطيني في الوطن، والوقوف إلى جانبه في محنته التي يعيش، ومعاناته التي يكابد، ومؤازرته فيما يواجه، والمساهمة معه في صموده وثباته، ومقاومته ونضاله، وهو الشعب الذي يتصدر المقاومة، ويتحمل أعباء المواجهة، ويخوض عن الأمة كلها حرباً بالنيابة، ويتحدى رغم قسوة الظروف وضعف الإمكانيات العدو الذي يتربص بالأمة ويكيد لها، ويحاول المس بها والسيطرة عليها.
قررت الجمهورية الإسلامية في إيران منح أسرة كل شهيدٍ فلسطيني في عموم الوطن كله، في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وفي الأرض المحتلة عام 48، مبلغ سبعة آلاف دولار، والتعويض عن كل بيتٍ دُمِّر وهُدِّم مبلغ ثلاثين ألف دولارٍ أمريكي، واتفقت مع القوى والفصائل الفلسطينية التي التقتها في طهران على سبل صرف هذه المبالغ، والوسيلة التي يجب اتباعها لضمان وصولها إلى أصحابها، واستفادة المتضررين منها، وبدأت في إعداد القوائم وتنظيم آلية العمل، لتباشر في صرف المبالغ على مستحقيها، وتوزيعها على أصحابها، وفق الطريقة التي يريدون، والوسيلة التي يختارون، وبالسرعة التي تحقق الغرض وتفي بالمطلوب.
جاءت الهبة الإيرانية في أصعب الأوقات وأحلك الظروف التي يعيشها الفلسطينيون، إذ أمعن العدو الإسرائيلي في الاعتداء عليهم والنيل منهم، فقتل في انتفاضتهم المجيدة أكثر من مائتي فلسطيني، وتسبب في إصابة آلافٍ آخرين، واعتقل ونكل وعذب أكثر منهم، وجل الشهداء شبابٌ يافعٌ، وصبايا صغيراتٌ، ومنهن أمهاتٌ وأطفالٌ صغارٌ، تعمد العدو قتلهم، وأصر على استهدافهم دون غيرهم، إذ هم الأمل والمستقبل، والرفعة والعزة، وهم حملة مشاعل العلم بشهاداتهم، وحملة معاول البناء بأيديهم.
ودمر العدو ما يزيد عن ثلاثمائة بيتٍ ومنزلٍ فلسطيني، وشرد أصحابها، ومزق شمل أهلها، وشتت أبناءها وباعد بينهم، وعاث فيها فساداً وخراباً، فقوض أعمدتها، وأسقط أسقفها، وخرب محتوياتها، وأفسد أثاثها وكل ما فيها، وأتى على ذكريات الأسر، وبقايا العائلات، وأحلام السكان، وحطم ألعاب الأطفال وعرائس البنات الصغيرة، ومزق الكتب وبعثر الدفاتر وكسر الأقلام، وسحق بجرافاته الضخمة آمال المواطنين، وداس بآلياته الكبيرة أحلامهم الصغيرة، وأمنياتهم العظيمة، وكان في سياسته هذه على أهلنا في الوطن أشد هولاً وأكثر وجعاً وأبلغ ألماً، إذ لا أصعب على النفس من هدم البيوت، ولا أوجع في القلب من نسفها وتدميرها وجعلها أثراً بعد عينٍ، وأطلالاً بعد حياة.
جاءت الهبة الإيرانية الكريمة لتساهم في البقاء، ولتشارك في الثبات، وليكون لها فضلٌ في الحفاظ على الهوية، والتمسك بالأرض، ودعم صمود الإنسان الفلسطيني في أرضه ووطنه، ولتزيد في تمسكه بحقه وأرضه، في مواجهة التحديات والصعاب، والسياسات التهويدية والمساعي الإسرائيلية، ذلك أن الإنسان الفلسطيني هو الهوية والصبغة، وهو الوجه والشكل، وهو العمق والانتماء، وهو التحدي والعقبة، والصخرة والجبل، ولا قيمة للوطن دون رجاله، ولا بقاء للأرض دون سكانها، ولا سبيل للعدو على شعبٍ يعرف قيمة الثبات وفضل الصمود، وعظمة الرباط في أرضه، ولا يكون هذا إلا بدعم الفلسطيني ومده بأسباب البقاء وعوامل الثبات، والوقوف إلى جانبه ومساندته ورعايته والحرص عليه، وهو ما تطمح إليه الهبة الإيرانية الجديدة.
اعترض البعض على الهبة الإيرانية، ووجه الانتقادات لها، وأطلق الشبهات حولها، وحاول حرفها عن مسارها، وجرفها عن غايتها، وبدأ في كيل الاتهامات لها، ودعا إلى رفضها وعدم القبول بها، وأيد الاستغناء عنها وعدم الانتفاع بها، ووصفها بأقذع الصفات وأبشع النعوت، ودعوا عوائل الشهداء وأصحاب البيوت المدمرة إلى عدم استلامها أو القبول بها، رغم أن هذا الدعم الإيراني ليس الأول الذي تتقدم به إيران، ولن يكون الدعم الأخير، ولا المساهمة اليتيمة، إذ سبقها عطاءاتٌ كبيرة وستتلوها عطاءاتٌ أخرى، ومساعداتٌ أكبر وأكثر، وأعظم وأجل، وما صمود المقاومة في فلسطيني إلا بفضل دعمهم، إذ أن لهم فيها دوراً يشهد به أهلها، ولا ينكره أصحابها، ولا يستنكف عن شكرهم قيادتها، وهو دعمٌ مستمرٌ لم يتوقف، ومتواصلٌ ولم ينقطع.
ألا يرى هؤلاء المنتقدون المعترضون، الغاضبون الآسفون، أن أسر الشهداء وأصحاب البيوت المدمرة قد رفضوا نصحهم، وخالفوا أمرهم، وسارعوا إلى تسجيل أسمائهم، واستعجلوا الحصول على عطاءاتهم، واتصلوا بأنفسهم أو وكلوا غيرهم ليقوم مقامهم وينوب عنهم، وقد تقدموا بشكر إيران قبل غيرهم، وقدروا لها عطاءها واهتمامها، ومبادرتها وسابقتها، إذ انبروا لمساعدتهم، وقرروا تقديم العون لهم.
الفلسطينيون في ظل انتفاضتهم العظيمة يتحسرون ويتألمون، ويشعرون بإحباطٍ وإهمال، ويتمٍ وحرمانٍ، أن أحداً غير الجمهورية الإسلامية في إيران لم يقف معهم ويؤيدهم، ويساندهم ويقدم العون إليهم، وهم الذين يعيشون في العراء، أو يقيمون فوق الركام، أو يسكنون في الشوارع أو تحت الخيام، أو تؤيهم المدارس والمساجد والمؤسسات، وقد فسدت ثيابهم، وتحطم أثاثهم، ولم يبق عندهم أو معهم شئٌ يسترهم ويقيهم غول الأيام وفتن الزمان، والعدو لا يفتأ يضيق عليهم ويعتقلهم، أو يستدعيهم ويحقق معهم، ويهدد بعقابهم وإبعادهم، وطردهم من الوطن ونفيهم إلى سوريا أو إلى أرضٍ بعيدةٍ.
غريبٌ هو شأن هؤلاء المنتقدين المعارضين، الذين يحسنون رفع الصوت عالياً وتوجيه الاتهامات السريعة، وتشويه النوايا الصادقة والعبث بالمشاعر البريئة، ألا يرون أنهم يجافون الحق باعتراضهم، ويخالفون المنطق بانتقادهم، ويوجهون السهام في غير محلها، ويصوبون النار على غير هدفها، أليس الأولى بهم أن يتقدموا بالشكر لمن يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وأن يبادروا إلى ثناء من ينتصر لهم، ويقف إلى جانبهم، ويساندهم في قضاياهم، في وقتٍ عزَّ فيه النصير، وغاب فيه السند، وامتنع الأخ والشقيق، والقريب والنسيب عن تقديم العون والمساعدة، والمساهمة في رفع الظلم والإساءة، بل بتنا في زمنٌ تعلن فيه العشيرة والقبيلة، والجار وأصحاب الدار، براءتهم من المقاومة، واستنكارهم لها، واستعلاءهم عليها، واستعدادهم لمحاربتها والتضييق عليها، ووسمها بما ليس فيها، واتهامها بما هو غريبٌ عنها ومخالفٌ لها.
أيها الناس جميعاً اعملوا واعوا أن فلسطين وأهلها، وانتفاضتها ومقاومتها، ومقدساتها وأرضها، في حاجةٍ إلى كل دعمٍ وسندٍ، وهي تبحث عن كل نصير ومعينٍ، وعدوها ماكرٌ لعينٌ، وخبيثٌ لئيمٌ، يريد أن يستفرد بها ويستقوي عليها، فلا تتخلوا عنها ولا تتأخروا عليها، ولا تنأوا بأنفسكم عن الواجب الملقى عليكم، ولا تقصروا في المهام المنوطة بكم، وإياكم وانتقاد من هب ليساعد وأسرع لينقذ وقام ليسند، فهؤلاء وجب شكرهم، وكان حقاً علينا أن نذكر فضلهم ونشيد بجهودهم، وأن نسألهم المزيد والجديد، والاستمرار والتواصل، فهذه معركةٌ في حاجةٍ إلى كل جهدٍ، وتتسع بندقيتها لكل كتف، وتحتاج جبهتها كل مقاتل، ويلزمها كل نصيرٍ ومساندٍ، وهي بحاجة إلى جناحي الأمة، العرب والعجم، والمسلمون والمسيحيون، والسنة والشيعة معاً.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 8/3/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]