شكلت العمليات الفدائية المتتالية في القدس ويافا وتل الربيع , والتي أسفرت عن عدد من القتلى وما يزيد عن عشر إصابات في صفوف الجنود والمستوطنين , إستعادة قوية للحضور الإعلامي لأحداث وفعاليات إنتفاضة القدس , رغم المحاولات الحثيثة من بعض الجهات الإعلامية الفلسطينية والعربية , الإيحاء بأن إنتفاضة القدس تلاشت أوفي طريقها إلى التوقف النهائي, وكما حاول الإحتلال ذلك عبر نشر تقديرات صادرة عن جهات إستخباراتية في جيش الإحتلال بتاريخ 6- 3- 2016 تزعم أن الإنتفاضة أصابها الضعف والتراجع , بعد خمسة أشهر من إندلاعها , ولقد تلقفت بعض الوكالات والمواقع الإخبارية للأسف الشديد , هذا التقرير ونشرته في صدارة ما تقدمه من خدمة إخبارية للجمهور الفلسطيني , وبقصد أو بدون قصد كانت تساهم بالترويج للمزاعم الإحتلالية , والتي تهدف بالأساس إلى إضعاف الروح المعنوية وإخماد همم الشباب المنتفض, وتربط التقديرات الإحتلالية ما تقول أنه تراجع للإنتفاضة , بالإنخفاض العددي في العمليات الفدائية , والتي بلغت حسب تقارير جيش الإحتلال (29) عملية خلال شهر نوفمبر الماضي, مقارنة بأعلى مستوى للعمليات خلال الأشهر الأولى لإنتفاضة القدس , والتي سجلت أكثر من ( 60) في الشهر الواحد , وهذه التقديرات والتقارير الإحتلالية التي يتم نشرها إعلاميا , تدخل في إطار الحرب على الإنتفاضة ومحاولات إخمادها , ولو دققنا في الرقم الذي زعم التقرير من خلاله التراجع , لوجدنا أن عدد أيام شهر نوفمبر هذا العام كانت 29 يوما , بمعني أن هذا الشهر قد شهد عملية في كل يوم , وهو بحد ذاته تأكيد على إستمرارية العمل الفدائي, وينفي أكذوبة ومزاعم تراجعها , وإشارة واضحة على حيوية إنتفاضة القدس وثبات فعلها الثوري الموجه نحو الإحتلال ومستوطنيه.
في الإنتفاضات الشعبية ليس مطلوباً أن يكون لها أداء بحجم الحرب أو المواجهة العسكرية الكبيرة , بل يكفي للإقرار بوجود إنتفاضة أن يستمر الرفض للإحتلال , وإرباكه بعمليات المقاومة الشعبية , والتي تبدأ من إلقاء الحجارة على ألياته العسكرية أو حافلات مستوطنيه , أو إستهدافهم بالزجاجات الحارقة , أو مباغتتهم بعمليات إطلاق نار في فترات زمنية , يحددها مسار الأحداث وعنف المواجهة , وهذا ما تحقق في إنتفاضة الحجارة عام 1988 م على مدى أشهر طويلة , الا أنه تحقق في أقل من خمسة شهور في إنتفاضة القدس , وذلك إشارة إلى سرعة الإنتقال بين وسائل وأساليب المقاومة المتاحة شعبياً في الإنتفاضة الحالية , ويرجع ذلك لمشاركة قطاعات واسعة من الشباب الفلسطيني في أعمال المقاومة , فمن يحدد نمط أو شكل وسيلة المقاومة هو الشخص الذي يقرر تنفيذ عملية فدائية , وما يقع تحت يديه من وسائل وأدوات من الممكن أن يستخدمها في العملية , وتضمن وفقاً لتقديراته إيقاع الخسائر في جنود الإحتلال, ولعل هذا الأمر يعبر عن حالة من الإستعداد للتضحية والعمل الفدائي , غير مسبوقة وبمستويات عالية جداَ , بعيداً عن عمليات التنظير والتعبئة والحشد الفصائلي المعتادة , وهذه رسالة قوية أن الشعب الفلسطيني يتمسك بخيار المقاومة , ويعتبرها الوسيلة الأكثر تأثيراً في مواجهة الإحتلال وإجرامه.
وهنا يأتي تفسير ما حدث في يوم الثلاثاء والذي أطلقت عليه وسائل إعلام الإحتلال بـ " الثلاثاء الأسود " وأطلق عليه الإعلام الفلسطيني الشعبي عبر وسائل التواصل " ثلاثاء الرد" , فلقد جاءت العمليات الفدائية بقوة أدواتها الرصاص وعمليات الطعن المتنقلة , وحاجة الزمان للفعل المقاوم , حيث سبق ذلك جريمة إعدام الشهيدة فدوى أبو طير على أبواب المسجد الأقصى, وخطورة أماكن تنفيذ العمليات الفدائية بالنسبة للإحتلال , حيث المدن الإستراتيجية في كيانه, وهو الذي يصرف ملايين الشواقل وينشر آلاف الجنود من أجل حمايتها من العمليات الفدائية , فالعملية في القدس المحتلة والتي نفذها الشهيد فؤاد أبو رجب التميمي , من بلدة العيساوية بالقدس المحتلة , كانت عبر الإشتباك الناري وإصابة جنود وشرطة للإحتلال بشكل مباشر , وحولت العملية شارع صلاح الدين في المدينة المقدسة إلى ساحة حرب حقيقية , وكذلك عملية يافا الفدائية والتي قام بها الشهيد بشار صالحة , من بلدة حجة قضاء مدينة قلقيلية, من العمليات القوية والتي تميزت بأسلوب الطعن المتنقل , و خلفت قتيل وعشر إصابات في أماكن مختلفة من مدينة يافا والمحصنة أمنياً وعسكرياً ,وشهدت المدينة المحتلة خلال العملية حالة من الهلع والإرباك , وتضاربت الروايات الصهيونية عن أكثر من عملية وأكثر من منفذ , وكأن الشهيد بشار جيشاً قد إجتاح " تل أبيب " بسكينه , فسقطت نظرية الأمن الشخصي وهي من ركائز ودعائم المشروع الإستيطاني في فلسطين , وشعر كافة المستوطنين بالرعب الشديد, وطالبت الجبهة الداخلية للإحتلال من المستوطنين عدم التحرك في المدينة , خشية من عمليات الطعن .
ما يمكن إستخلاصه كرسائل سريعة من عمليات "ثلاثاء الرد" أن الإنتفاضة مستمرة , وأن محاولات قمعها عبر هدم البيوت وإعتقالات العشرات يوميا , أو التحايل والإلتفاف عليها عبر ما يزعم أنه تسهيلات ومنح تصاريح عمل , جميعها أساليب ستفشل في مواجهة الغضب الفلسطيني الشعبي الرافض للإحتلال , فالأحداث تؤكد أن إنتفاضة القدس هي خيار الجماهير وخاصة الشباب منهم, وأن المحرك الفعلي للإنتفاضة هو الضمير الحي للشباب الواعي , والذي يرفض هذا الذل والخنوع الذي يراد للفلسطيني أن يتجرعه في وطنه , ويؤكد بفعله المقاوم قدرة شعبنا على هزيمة مشروع الإحتلال في فلسطين , وإسترجاع حقوقه الوطنية المسلوبة , ويثبت فشل المنظومة الأمنية الصهيونية العاجزة أمام الإرادة الفلسطينية الرافضة للإحتلال البغيض .
بقلم/ جبريل عوده