دفاعا عن "الشتاء العربي"

بقلم: عماد شقور

هذا الذي أطلق عليه الغرب بداية، اسم " الربيع العربي"، ثم لحقهم العرب مستخدمين ذات التعبير، هو ليس ربيعا في الواقع، وإنما هو "الشتاء العربي".
سُنّة الحياة والطبيعة، هي الحقيقة الوحيدة الثابتة. فكما يولد كل مخلوق حي ثم يشب، وبعدها يكتمل نضوجه، لتلحق بذلك مرحلة الشيخوخة ثم الزوال، مخلِّفا بذورا تولد ثم تتدرّج لتنتهي كما انتهى. هكذا تنشأ الدول والامبراطوريات ثم يكتمل نموها لتبدأ مرحلة الضعف والتفكك ثم الاندثار، ليرثها من تكون قد أهّلته لذلك، في دائرة لا تنتهي. أزلية هي تلك الدائرة، على مرّ الزمان وتعاقب العصور.
وفي الطبيعة كما في الطبيعة، تتوالى الفصول في كل عام، بتناغم وانتظام وترتيب، في دائرة لا تحول ولا تزول. لا سلطة لمخلوق عليها. فبعد كل صيف خريف، وبعد كل خريف شتاء، وبعد كل شتاء ربيع، وبعد كل ربيع صيف. ومسكين هو من يحب الصيف في الشتاء، ويحب الشتاء في الصيف. انه يخسر طوال العام، ويُضيع عمره في البكاء على ما كان، منتظرا ما سيكون، ليبدأ من جديد في الشكوى والبكاء مما هو فيه، ترحُّما وشوقا لما كان فيه. لكل فصل مِتَعَه وعيوبه، منافعه ومضارّه، او كما كتبت الصديقة، بارعة مكناس علم الدين، قبل نحو أربعين سنة، ان لكل مرحلة في العمر مِتَعها الخاصة، التي لا يجوز، كما انه ليس من الحكمة أيضا، الخلط بينها. ومن لا يعرف كيف يستمتع ويستفيد من مِتَع ومنافع الفصول، يقضي على نفسه بالسقوط والمعاناة من عيوب ومضار الفصول، التي هي الحياة نفسها. وما ينطبق على الأفراد، (على هذا الصعيد)، ينطبق على المجتمعات والشعوب.
أوردت كل هذه المقدمة الطويلة، لتكون مدخلا واضحا لما أدعو اليه من التذكّر والتمعن والتفكر بما كان عليه الوضع العربي، قبل نعمة الشتاء الذي نحن فيه، نعمة الوعد والتبشير. ففي الشتاء سيول وعواصف وزمهرير، فيه غرق وبرد ومعاناة، ولكن فيه نعمة، بل نِعَم لا تحصى، اذ لولا الشتاء لما ارتوت الارض ولا وصل ربيع.
في "الخريف العربي"، الذي كنا فيه، عانينا كما لم يعان غيرنا من أمم وشعوب ودول الأرض. ومن خانته، أو تخونه، الذاكرة مدعو لإعادة الاطلاع على سلسلة "تقرير التنمية الإنسانية العربية" الذي أطلقته الدكتورة ريما خلف الأردنية، بتمويل وإشراف الأمم المتحدة، والذي حاز فيه العدد الاول من تلك السلسلة على "جائزة الأمير كلاوس" عام 2003، في حين حاز التقرير الثالث بعنوان "نحو الحرية في الوطن العربي" على جائزة الملك حسين للقيادة في عام 2005.
في تلك التقارير، بالغة الاهمية، وبالغة الدقة والأدلة والمعاني والايحاءات، ما يشير إلى تأخر وتخلف عربي حتى عن اكثر الدول الافريقية تخلفا، وعلى كل صعيد: التعليم والصحة والحريات والديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق المرأة، وغير ذلك الكثير. ولا "تمتاز" الدول العربية وشعوبها ومجتمعاتها وأحزابها ومنظماتها عن الغالبية الساحقة من أُمم ودول العالم، حسب تلك التقارير الصريحة الصحيحة، إلا في أمر واحد وحيد فقط: طول فترة البقاء في المنصب: رئيسا او وزيرا. وأضف إلى ذلك: او أمينا عاما للحزب، حتى بما في ذلك الاحزاب الشيوعية، او اعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، او اللجنة المركزية لحركة فتح، او لهذه العائلة او الطائفة او تلك.
هذا "الخريف العربي" هو القرون الوسطى الأوروبية، قرون صكوك الغفران وسيطرة الشعوذة باسم الدين، قرون الاقطاع وعائلات النبلاء، الذين راح ضحية التخلص منهم ومن أمثالهم، وصولا إلى عصر النهضة والتنوير، بل أقول وصولا إلى "الربيع الأوروبي".. عشرات آلاف القتلى على مدى ايام واسابيع متتالية، وعلى مدى أشهر وسنوات، من "شتاء أوروبي" مرعب، أفضى إلى دك الباستيل وانبثاق النور، ليغطي بالتدريج أراضي أوروبا كافة، بقعة اثر بقعة.
نعم، يعاني العرب هذه الايام من صقيع "الشتاء العربي" ومآسيه، وليس جديرا بكلمة انسان من لا تدمع عيناه، ولا يتقطع قلبه، وهو يشاهد هذه المآسي التي يتعرض لها بسطاء الناس من سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها، وهم يحاولون النجاة بأنفسهم وبفلذات اكبادهم من عمليات التقتيل المريع في هذا الوطن العربي المنكوب بقياداته السياسية والفكرية والاقتصادية. لكن لهذا الواقع المؤلم والد ووالدة، بل ان له جدّا وجدّة، هو هذا "النظام العربي" المقيت، الذي طال واستطال، وغطي قرونا من التخلف والتقهقر، لم تتخللها إلا فترة انطلاق مارد عربي بادر وساهم بفعالية في خلق "حركة عدم الانحياز"، ودقَّ رجله في الارض بقوة، مطالبا بحق أمته العربية في المساهمة في وضع القواعد والقوانين التي تحكم العلاقات بين الامم والشعوب والدول في هذا العالم. كانت الفترة قصيرة، اقتصر عصرها الذهبي على أحد عشر عاما فقط، بدأت بدحر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وانتهت بالسقوط المريع في كارثة حزيران / يونيو 1967.
وكان لومضة حرب اكتوبر 1973 هي أيضا، ان تبدأ "عصر التنويرالعربي"، إلا انها وئدت وهي في السرير، قبل ان تتمكن من الوقوف بصلابة على قدميها.
وكان لومضة أوسلو أن تستنهض الهمم لبدء عصر جديد واعد. إلا ان العقل المتخلف سيطر، ومنع انتشار النور والتنوير، والتقدم لمراكمة المكاسب، وحوّل الإناء الذي يجمع ويحمي ويُنمِّي ويطور ويزيد تلك المنافع والمكاسب، إلى اسطوانة وانبوب بلا قعر، اندلق كل ما فيه، ويندلق كل ما يضاف اليه من ثمار تضحيات طاهرة، إلى بحر لا فائدة لنا منه، او إلى مزبلة لا ينالنا منها غير مضارِّها وروائحها النتنة.
ليس لنا ان ننتحب ونندب على خريف بدأ ينقشع قبل خمس سنوات واشهر، ليس عن كل هذا الوطن العربي، ولكن عن أجزاء منه، يمكن لها ان تكون بداية مبشرة بزوال الغم عن كامل أجزاء هذا الوطن. واذا كان ما نعانيه هذه الايام، مما لا يطيقه بشر، فان ما كنا فيه اكثر سوءاًً.
كان ما كنا فيه عهدا بليدا، برِكة ماء آسنٍ، تزداد كل يوم وكل لحظة عيوبا على عيوب، وسموما على سموم.
الألم نعمة من الطبيعة. إذا كُسرت ساق، او جُرح بطن، او شُج رأس، يشعر من أصيب بذلك بالألم فيعالجه ويداويه فيبرأ منه ويشفى.
أما إذا كان الخلل في الجسم بلا ألم وأوجاع، مثل الورم السرطاني، لا يشعر به المصاب، ولا يحس بألم يستلزم المعالجة الفورية، إلى ان يستفحل الخلل والمرض، ويصل مرحلة استحالة العلاج. فالوجع والألم نعمة. صحيح انه ليس حالة ممتعة، ولكنه منبه، مشكور، لوجود مشكلة تتوجب معالجتها. لذلك فإن المنطق السليم يقرر ان ليس كل ألمٍ لعنة ونقمة، بل انه في الغالب الأعم بَرَكة ونعمة.
ونحن في هذه الايام نعاني من الألم. نعاني كثيرا. لكنها أيام شتاء لا بد منه.. خلاصا من خريف بدأنا في التخلص منه، استعدادا لـ"ربيع عربي"، لا وجود فيه لنظام فاسد مغرق في إجرامه ودمويته، ولا لأنظمة حكم تساند وتدعم، بل "تخترع" و"تفقِّس" بدائل على شاكلتها، أكثر بؤسا وتخلفا ممن تحاربه.
لا هذا، ولا ذاك.

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور