بصراحة اقف لأوجه رسالة عتب لبعض وسائل الاعلام والمواقع الاعلامية لانني احترم قدسية الاعلام ودوره ، وخاصة ان الاعلام يجب ان يبقى اعلاما متنورا وعلى مسافة واحدة من الجميع ، وخاصة امام المناسبات والذكريات الوطنية ، وبالتحديد امام ذكرى شهداء عمالقة .
ربما أن هذه المقالة اردت توجيهها في الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد قائدا وفارسا ومن قادة النضال الوطني والقومي الا وهو الشهيد الكبير محمد عباس "ابو العباس" الامين العام لجبهة التحرير الفلسطينية ، لأن الكثيرون ممن عايشوا وناضلوا مع ابو العباس يعرفون تجربته وفكره وشخصيته ومنتوجه وإرثه النضالي والسياسي والفكري، فهو شخصية وتجربة أكبر من أن تحيط بهما مقالة أو حتى عدة مقالات،وقد يراها البعض جزئية وغير مكتملة، وهذا شئ طبيعي، فهي خطوة تأتي في سياق أشمل، سبقني إليها كتاب فلسطينيون وعرب وغير عرب... ومع ذلك يبقى الكلام عن الشهيد القائد ابو العباس بحاجة الى المزيد من البحث والتعمق.
وهنا يهمني أن أشير إلى مسألة أساسية لماذا بعض المواقع الاعلامية ووسائل الاعلام الفلسطينية تحاول تغييب ذكرى هذا المناضل الكبير ، ولماذ لم تعد بحث توثيقي عنه بالمعنى العلمي للكلمة، وهل هذا التغييب عما يكتبون عن الشهيد القائد ابو العباس يتعلق باللحظة الراهنة، وبالواقع والظروف التي تمر بها المنطقة و القضية الفلسطينية، أرجو أن تكون مقاربتي ذات فائدة ولو جزئية... فهذا يكفي.
الشهيد القائد ابو العباس ظاهرة دائما تختلف الآراء حين مقاربتها سواء في وجودها أو بعد رحيلها، فكان صاحب تجربة عريقة ، لانه شخصية تختزن ثروة من المعرفة، وثروة من التجارب، ان الرجل الذي كان يدرك بوعيه وانتمائه وحدسه وصدقه معنى أن يكون قائدا ثائرا فلسطينيا عربيا وأمميا ، كما كان يدرك أن من يتقدم ليرفع راية فلسطين وشعبها ، كان يواجه التحديات القاسية التي تطرحها القضية الفلسطينية عليه ، لانه يملك الوعي والإرادة والعناد لكي يتجاوز المصائد والالتباسات والإغراءات ، فهو لم يذهب لهذا الخيار بقلب مرتبك، أو في سياق أحلام وردية أو انتهازية في تلك اللحظة بل كان يرى النضال بهدوئه، بوفائه،بعاطفته ، بحركة جسده ، بنبرة صوته، بقدرته على الإصغاء،وبضحكته الصافية أحيانا أخرى، وأيضا من خلال اهتمامه بالتفاصيل كما اهتمامه بالقضايا الكبرى، بغضبه، وبقدرته واستعداده الدائم للعطاء والعمل بلا حدود، فالنضال بالنسبة له ليس نزهة أو امتيازات أو مظاهر، بل إنه كان يكره وبطبعه المظاهر، و يكره الخداع والكذب ،ولا يساوم على البديهيات، ولعل هذه السمات قد امتدت لتترك آثارها على جبهة التحرير الفلسطينية بكاملها، قد يختلف الكثيرون معها وقد تثير غضبهم ،وقد تستفزهم ، ومع ذلك يدرك الجميع حس عاطفته إلا أنه كان يتمتع بحدس علمي رائع وإحساس عميق بالمسؤولية،لأن النظرية عنده هي تفاعل مع الواقع وليس فوقه ، بل هي ضرورة للفعل الثوري أثناء حركته وليس مجرد مقولات جامدة.
لقد كان الشهيد القائد ابو العباس شديد الاهتمام وبصورة خاصة بتجارب حركات التحرر العالمية في فيتنام، وتجربة كاسترو وتشي جيفارا في الثورة الكوبية ، إلى جانب حركات التحرر
في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، هذا الأعجاب وهذا الاهتمام لم يكونا عفويان، بل لأنه يؤمن أن تلك التجارب التحررية هي أكثر فائدة وجدوى للنضال التحرري الفلسطيني لأن تلك التجارب التحررية تتقاطع من حيث الواقع والأهداف أكثر مع واقع حال الشعب الفلسطيني والتحديات التي تواجهه.
في هذا السياق المتحرك من النضوج النظري والسياسي والعملي في شخصية وتجربة الشهيد ابو العباس الممتدة من باكورة العمليات الاستشهادية التي اشرف عليها في الخالصة مع رفيقيه الشهيدين فؤاد زيدان "ابو العمرين" وحفظي قاسم "ابو بكر: مرورا بالعمليات البطولية للجبهة من الزيب الى نهاريا التي قادها القائد الاسير البطل الشهيد سمير القنطار وعملية المنطاد والطائرات الشراعية وبرختا واكيلي لاورو والقدس البحرية والقدس الاستشهادية والتي اشرف عليهم مع الشهيدين القائدين سعيد اليوسف وابو العز وصولا الى المشاركة الفعلية في انتفاضة الاقصى من خلال كتائب الفارس العربي وطلائع التحرير الفلسطينية ، اغتنت ثوابته وقناعاته بصورة عميقة ومقنعة وأصبحت أكثر رسوخا، من هنا تأتي أهمية إعادة التذكير بتلك الثوابت وبهذا نعطي لذكرى ابو العباس قيمة عملية وليس فقط وجدانية عاطفية.
أهم وأول تلك الثوابت الراسخة أن قضية فلسطين ومهما كانت الظروف، ومهما بدا الواقع العربي سيئا ومعاكسا تبقى قضية الأمة العربية المركزية، كان يرفض شعار يا وحدنا، وهذه المسألة تعود إلى رؤيته وانتماءه القومي العربي، فخطورة احتلال فلسطين كما هي في وعي الشهيد القائد ابو العباس العميق، لا تنبع وفق قناعته الراسخة من خسارة فلسطن على خطورة ذلك، بل لأنه يعي أن الهدف الأعمق والأخطر تاريخيا من وراء اغتصاب فلسطين هو الهيمنة على العالم العربي وتمزيقه ونهبه، وقد كان يلح ويعبر عن ذلك في خطاباته وكتاباته وأحاديثه بصورة لا تقبل الغموض، فالكيان الصهيوني هو بمثابة سرطان في جسد الأمة العربية ،واحتلال فلسطين هو مجرد رأس جسر للسيطرة على تلك الأمة،وبالتالي فالمشروع الصهيوني هو مشروع استعماري من أوله إلى منتهاه، وعليه فإن مواجهته هي مسؤولية الأمة، وانطلاقا من ذلك فإن هدف توحيد الأمة العربية بقي ثابتا لا يتزحزح في فكر الشهيد القائد ابو العباس ، وانطلاقا من هذا الثابت لم يكن يقارب أي قضية عربية من منطلق انتهازي أو استعمالي ،بل من كون كل قضايا الأمة العربية هي قضاياه، هكذا تقاطعت الثوابت القومية في فكر الشهيد وممارسته السياسية مع ثوابته الوطنية الفلسطينية، دون أن يشكل ذلك أي تناقض لديه، وكل ذلك كان يتقاطع مع ثوابته الأممية، انطلاقا من أن مواجهة الاستعمار ووقوى الاستغلال الطبقية(كدول وقوى اجتماعية ورجعية عربية وعالمية) هي مهمة أممية أيضا، وبالتالي فإن قضية فلسطين هي قضية وطنية قومية أممية وإنسانية في ذات اللحظة، وهذا الموقف الذي اكد عليه الشهيد القائد ابو العباس اثناء اعتقاله فهو كان يكتب لرفاقه برسائل تحمل عبق الثورة ،ويطمئن فيها عن الانتفاضة والوضع الفلسطيني والمقاومة ، وكان يؤكد ان المقاومة تلحق الهزائم بالكيان الصهيوني في لبنان وتدافع عن فلسطين رغم جراحاتها ، بناء على كل ذلك كان يحدد الحكيم مواقفه دون التباس.
إنه ابو العباس الذي تميزت مسيرة كفاحه الطويلة بمحطات نضالية استثنائية، يشهد له أعداؤه قبل رفاقه ، وقد تعامل معها بصلابة لا تعرف المهادنة ، فمن البدايات وصولاً لغزو لبنان ، وبعد الخروج من لبنان ،محطات بارزة في تاريخ قضيتنا الفلسطينية أكدت جميعها شموخ
وبسالة هذا الرجل الذي جسّد ما قاله دوماً " لا وجود لليأس في قاموسي، ولا أستطيع التسليم بانتصار دائم للظلم " كل من عرفه طوال مراحل نضاله أكد على أن ابو العباس يمتلك إرادة فولاذية لا تؤثر فيها وحشية أدوات الاحتلال الرهيبة ، وهو من قال أيضاً " تستطيعون أن تدمروا كل شيئ لكنكم لا تستطيعون تدمير إرادة المقاومة فينا " هذه الإرادة التي صمدت على مدى عام من الاعتقال حتى تم اغنياله على ايدى قوات الاحتلال الصهيو امريكي في العراق ، ، كانت آخر وصاياه لرفاقه ولكل الفصائل الوحدة والحفاظ على المقاومة، انه صاحب مسيرة حافلة بالبطولات قضاها في خدمة شعبه ووطنه وقضيته بوعي مستنير وبعزيمة قل نظيرها ، حيث نذر حياته من أجلها ،ولكن يبقى السؤال لماذا لم تسعى منظمة التحرير الفلسطينية الى اعطاء هذا القائد أدنى واجبات عرفان الجميل من خلال تسمية شارع او حديقة صغيرة باسمه مع لافتة تزيّن ركناً صغيراً مع صورته في فلسطين .
ختاما : لا بد من القول رغم تقديري واحترامي لكل وسائل الاعلام اقول هذا هو فارس فلسطين الشهيد القائد ابو العباس الذي كانت بوصلته فلسطين ويرتكز دوما إلى الوعي وإلى الثقة بالناس، فهو لم يستكين، ولم يخضع، بل واصل مسيرة العطاء التي وهب نفسه لها، هذه المسيرة التي يجهلها العديد من أبناء فلسطين، كما يجهلها العديد من أبناء هذه الأمة، فهي مسيرة أبطالنا العظماء الذين مثلوا مدرسة فكرية وثورية، ورسم تاريخ مشرق مع قادة تعملقوا نجوما في سماء فلسطين، لم يعشقوا سوى فلسطين الوطن والهوية والانتماء، ترفعوا عن ثقافة التعصب والحقد، وزرعوا أشجار الوطنية لتنبت في صحاري قاحلة قوافل الشهداء.
بقلم / عباس الجمعة
كاتب سياسي