جامعة الأزهر بين الكواكبي وفولتير!

بقلم: أيوب عثمان

* ما لنا... ألفنا الانقياد ولو إلى المهالك؟! ألفنا اعتبار التصاغر أدباً! والتذلل لطفاً! والتملق فصاحةً!... وترك الحقوق سماحة! وقبول الإهانة تواضعاً! والرضا بالظلم طاعة! ودعوى الاستحقاق غروراً والبحث عن العموميات فضولاً!... والإقدام تهوراً والحمية حماقة! والشهامة شراسة! وحرية القول وقاحة! وحرية الفكر كفراً! (عبد الرحمن الكواكبي)

* لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات. (أفلاطون)

 

ما أكثر ما كُتب عن الحرية في الرأي وحرية التعبير عنه على نحو عام، وما أكثر ما كَتَبْتُ عن هذه الحرية التي أقمت الدليل – غير مرة – على أنها مُذَلة ومقموعة ومهانة في جامعة الأزهر التي هي في قطاع غزة المحاصر، وكأن هذه الجامعة لا تكتفي بالحصار القاتل المضروب على قطاع غزة بأكمله، فأرادت أن تستكمل هذا الحصار بمحاصرة الكلمة والرأي وحرية التعبير عنه حتى في جامعة أقيمت في الأصل تحت مظلة اسمها "الحرية" وتحت عنوان عريض اسمه "الدفاع عن الحرية" بمفهومها العام، و"حماية الحرية الأكاديمية" على نحو خاص.

هذه المرة وسابقتها، وجدتُّني اكتب على نحو جديد، باختصار شديد ومفيد، مؤيداً بدامغ الدليل ما أقول، تاركاً الفصل في الأمر إلى قوةٍ لا بد من الاهتمام بها، اسمها "الرأي العام"، باعتبارها القوة الضاربة التي تهوي على رأس الفساد فتحطمه وتطيح بأربابه ورموزه وأركانه وأزلامه وأعوانه وعشاقه.

فالدكتور/ ابراهيم أبراش، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر الكائنة في قطاع غزة المحاصر، ها هي جامعة الأزهر تحاصره وهي محاصرة، قاصدة ليَّ لسانه أو قصه أو كمّ فيه أو كسره، لا لشيء إلا لأنه أورد عن الفساد في هذه الجامعة حقائق لا يختلف على صحتها اثنان ولو كانا مكابِريْن كاذبين ومخادعين أومنافقَيْن.

ففي مقابلة تلفزيونية مصورة بثتها وكالة تلفزة كردية، قبل نحو ثلاثة أشهر، قال الدكتور/ أبراش كلاماً على الرغم من صحته ودقته، إلا أنه كان كلاماً مرسلاً لم يؤيده بما يدل عليه ويؤكد صحته، ذلك أنه لم يعط ولو مثالاً واحداً على ما قال من كلام مرسل يعلم كل من في الجامعة أنه صحيح، وللواقع مطابق ودقيق، وإن كان يعوزه الدليل الذي لو أتى به أبراش وأقامه، لكان أخرس الألسن وفقأ الأعين وقطع دابر المنافين والفاسدين والأفاكين.

في تلك المقابلة التليفزيونية المصورة – والتي عوقب عليها الدكتور/ أبراش على نحو لا ينبغي أن يُسكت عليه، ولا يليق به، بدءاً من شخصه هو، ومروراً بزملائه، وصولاً إلى ما فوق

ذلك تدرجاً – قال:" في خلل موجود في جامعة الأزهر// لا يوجد اهتمام من الإدارة سواء على مستوى مجلس الأمناء أو على مستوى رئاسة الجامعة// في الفترة الأخيرة أصبحت رئاسة الجامعة ملحقة بمجلس الأمناء رغم أن المفترض أن يكون رئيس الجامعة هو الأساس، اليوم لم يعد هو الأساس، كل شيء ألحق بمجلس الأمناء أو برئيس مجلس الأمناء// هذه المؤسسات الرئاسية أحيانا لا تميز بين الذين يعملون والذين لا يعملون، لا تشجع الإبداع الفكري والإبداع العلمي والأكاديمي. يسيطر عليها الهاجس الأمني، هاجس الولاء أكثر من الاهتمام بالأشخاص// في حالات يشعر أعضاء الطاقم الأكاديمي أنهم في حالة من الإحباط عندما يشعروا أن هناك محاباة للأشخاص ليس على أساس القدرة والكفاءة والإنجاز// نوعية الأشخاص المشكلة لمجلس الأمناء تؤثر على طريقة أدائهم// نوعية تركيبة مجلس الأمناء قليلاً ما تجد منهم من له اهتمامات أكاديمية أو يعرفوا في العمل الأكاديمي// في جامعة الأزهر والجامعات الفلسطينية ككل غياب المرجعية الواضحة// في ظل الانقسام لم نعد نعلم إن كانت الجامعات في غزة تابعة لوزارة التعليم في غزة أم في رام الله// هل الوزارة في رام الله تملك الإمكانيات والرغبة في أن تمارس إشرافها ومراقبتها أم أن آخر ما تفكر فيه هو وضع الجامعات؟// أحيانا يتصرفوا ويجتهدوا في أمور إلا أن تعاملهم في ظل الانقسام يضيع الأمور بين الوزارة في غزة ورام الله، هذا يلعب دور كبير// من هنا نناشد وزارة التعليم الفلسطينية ألا تترك الأمور تحت ذريعة الانقسام واحنا مش قادرين نعمل إشي في غزة ونعمل إشي في الجامعات// لأ. يستطيعوا أن يعملوا الشيء الكثير/ السياسة تلعب دور في الموضوع ودائما في العمل الأكاديمي إذا سيست الجامعات هذا يقتل العمل الأكاديمي// التسييس الفج للجامعة يقتل العمل الأكاديمي// هذا كان من المشاكل التي تعانيها الجامعات في قطاع غزة".

كان ما أوردناه أعلاه هو كل ما قاله الدكتور/ أبراش، في المقابلة التلفزيونية المصورة الآن، ليس دفاعاً عن أبراش، أبداً، ولكن.... دفاعاً عن الكلمة وعن الحق في قولها، ودفاعاً عن الرأي وعن الحق في التعبير عنه، أتساءل: أين الخطأ فيما قاله أبراش؟! أين خطأ أبراش الذي أنزلت عليه تلك العقوبة المزدوجة بسببه؟! فهل أخطأ، يا ترى، حين قال:

"في خلل في جامعة الأزهر"؟! أم حين قال: "رئاسة الجامعة ملحقة بمجلس الأمناء وكل شيء الحق بمجلس الأمناء ورئيس مجلس الأمناء؟!" أم حين قال: "من المفترض أن يكون رئيس الجامعة هو الأساس. اليوم لم يعد هو الأساس. كل شيء ألحق بمجلس

الأمناء أو برئيس مجلس الأمناء؟!" أم حين قال إن الجامعة "لا تميز بين الذين يعملون والذين لا يعملون، ولا تشجع الإبداع الفكري والعلمي والأكاديمي، ويسيطر عليها الهاجس الأمني وهاجس الولاء؟!" أم حين وصف "شعور الأكاديميين بالإحباط بسبب المحاباة للأشخاص على حسب الكفاءة والإنجاز؟!" أم حين قال: "نوعية الأشخاص في مجلس الأمناء تؤثر على طبيعة أدائهم وقليلاً ما تجد فيهم اهتمامات أكاديمية أو يعرفوا في العمل الأكاديمي؟!" أم حين انتقد "غياب المرجعية الواضحة في وجود الانقسام" بحيث إننا " لم نعد نعلم إن كانت التبعية لوزارة التعليم في غزة أو رام الله" أم حين تساءل قائلاً: "هل الوزارة في رام الله تملك الإمكانيات والرغبة في أن تمارس إشرافها ومراقبتها أم أن آخر ما تفكر فيه هو وضع الجامعات؟!" أم حين ناشد وزارة التعليم بقوله: "نناشد وزارة التعليم الفلسطينية ألا تترك الأمور تحت ذريعة الانقسام واحنا مش قادرين نعمل إشي في غزة ولا نعمل إشي في الجامعات؟!" أم حين تطوع فأعطى على سؤاله جواباً فقال على نحو يقيني: "لأ. يستطيعوا أن يعملوا الشيء الكثير؟!" أم حين قال: "السياسة بتلعب دور في الموضوع ودائما في العمل الأكاديمي إذا سيست الجامعات هذا يقتل العمل الأكاديمي... التسييس الفج للجامعة يقتل العمل الأكاديمي؟!"

فإذا كان الدكتور/ أبراش قد عاقبته الجامعة على أقول لا كذب فيها حيث تتطابق كلها مع الواقع المزري في الجامعة تطابقاً كلياً، وإذا كان الدكتور/ أبراش قد عاقبته الجامعة على أقوال مرسلة دون أن يشفعها بدلائل وشواهد ومستندات، الأمر الذي أبقى انتقاداته في الفراغ وعلى الهامش، فكيف كانت ستعاقبه لو أورد أدلة على ما قال؟! وعلى الجانب الآخر، والمخالف تماماً، أما كان للدكتور/ أبراش أن يتحدث عن السلبيات والمفاسد كما يشاء، مؤيداً كل ما يقول بما لديه من أدلة تثبت حجيته على ما يقول، ذلك أن قوله دون إثباته، ودون التدليل على صدقيته، قد تم اعتباره كلاماً مرسلاً كان هدفه الإساءة إلى الجامعة وتشويه صورتها والتشهير بمسؤوليها، ما اعتبرته الجامعة موجباً – من وجهة نظر كبارها – لإيقاع عقوبة لا يجوز ولا يُجَوَّزُ إيقاعها دون تحقيق منتهاه إدانة، ذلك أن العقوبة لا تكون إلا بإدانة، فيما الإدانة لا تكون إلا بتحقيق!

وبعد، فإن ما تم إنزاله بالدكتور/ أبراش من عقوبة ذات شقين إنما الإنذار أحدهما، فيما الآخر خصم أسبوع من راتبه، لهو أمر مفجع حقاً ومثير للسخرية أيضأ. أما أنه مفجع، فلأنه يحدث في جامعة كان الأجدر بأربابها أن يفهموا - أو أن يتّعملوا كيف يفهمون – معنى حرية الكلمة والحق في الرأي وحرية التعبير، وأما أنه مثير للسخرية والاشمئزاز والنفور والتقزز، فلأن هذا الذي عوقب – دونما خطأ ارتكبه– قد أكل اللطمة باستكانة مهينة ثم تحسسها بصمت رهيب وقبول عجيب ومريب، دونما محاولة منه لاستنهاض همة نفسه، دفاعاً عنها وعن علمه، وعن كيانه الأدبي والاجتماعي والمجتمعي، وعن جامعته، وعن أستاذيته في مجال تخصصه،

وكذلك عن كل أقواله وكتاباته في السياسة والثقافة وحقوق الإنسان التي على رأسها وفي صدرها حرية الكلمة والحق في التعبير عنها.

أما آخر الكلام، فإن كان أرباب الجامعة – المشرعون منهم والمنفذون – ما يزالون غير قادرين على إدراك قوله تعالي في سورة البلد: "ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين"، فإن الواجب والحكمة يقتضيان منا أن نزيد في صبرنا عليهم، محاولين إفهامهم، علّنا نصعد إلى أفهامهم التي قد – أقول "قد" - تجد ضالتها، هذه المرة، في قول الرئيس جورج واشنطن الأمريكي:" إذا سلبنا حرية التعبير عن الرأي فسنصير مثل الدابة البكماء كالتي تقاد إلى المسلخ"، أو في قول الأديب فولتير الفرنسي:" إنني اختلف معك في كل كلمة تقولها، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول ما تريد"، أو في قول رئيس الوزراء ونستون تشرشل البريطاني:" الانتقاد لا يكون محبباً، لكنه ضروري، لأنه يقوم بنفس وظيفة الألم في جسم الإنسان وينبهنا إلى أمر غير صحي". فهل يعون؟! أم أنه " لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات"، دونما فهم يصونه إيمان ويقين بما ذهب إليه حكيم قال: " الحرية أنا، وبدون حرية لست أنا، أما أنا فسأكون حراً لأكون أنا" .

فيديو مرفق للمقال

بقلم الدكتور/ أيوب عثمان

كاتب وأكاديمي فلسطيني

جامعة الأزهر بغزة