القنصل والطابون

بقلم: أسامه الفرا

لم يعد الطابون من ملحقات البيت الفلسطيني، اندثر أو أنه في الطريق إلى أن يصبح شيئاً من الماضي البعيد، لم يستطع أن يصمد أمام تغول الفرن الآلي وعصر الوجبات السريعة وتأفف الزوجة من الأعمال المنزلية، اختفاء الطابون من البيت الفلسطيني غيب معه مشهداً من الترابط الأسري والمجتمعي طالما شكل الطابون محوره، حيث يلتف الأبناء حوله بينما تنثر الأم عليهم المزيد من المحبة، وهو فرصة لأن تلتقي عنده النسوة لتبادل أطراف الحديث، اسقطنا الطابون من حياتنا بحجة تراجع جدواه الاقتصادية، في الوقت الذي لجأت المرافق السياحية صاحبة النجوم المتعددة إلى الاستعانة به لجلب المزيد من النزلاء إليها، استحضرت الطابون بصورته التقليدية دون أن تكترث لغياب مفردات السلوك المجتمعي المرافق له.
اعتدت كلما زرت القاهرة أن أعرج يومياً على محل صغير لشراء خبز الطابون المعد على الطريقة العراقية، صاحب المخبز الصغير والمتواضع جاء من العراق واستقر في القاهرة حاله كحال الآلاف من العراقيين الذين فروا من وطنهم بفعل القتل الذي يسكن شوارع مدينة المنصور والمدن المجاورة لها، المؤكد أن بغداد التي استقت كنيتها من حالة الرفاهية "البغددة" التي تمتع بها العراقيون زمن تشييد عاصمتهم لم تعد تحتفظ بشيء من كذلك، شلال الدم النازف في شوارعها لا يختلف كثيراً عن ما فعله هولاكو بأهلها يوم أن عاث فيها فساداً، المهم أن العراقي صاحب المخبز تحتفظ ملامحه بقدر واسع من الثقافة، والواضح أن الأيام دارت به على نحو لم يكن في حسبانه، وهو الذي أسكن في داخلي شيئاً من الفضول لمعرفته، بت كلما مررت على المخبز الصغير أبادل صاحبه أطراف الحديث المتعلق بهموم وشجون العراق، لم يفاجئني بتحسره على حقبة صدام حسين، لكن المفاجأة حين أخبرني بأنه عمل قنصلاً للعراق في باريس ابان حكمه.
يوم سقط العراق لم يعد له في وطنه متسع كونه من المغضوب عليهم بإعتباره من مكونات النظام العراقي السابق، دوماً في مجتمعاتنا العربية ما نصف خصومنا السياسيين بالفساد، ونجعل من ذلك تهمة نلاحقهم بها مع اي إطاحة بنظام حكمهم، والحقيقة أن ما يدفعنا لهذا السلوك لا علاقة له بمكونات الفساد المختلفة بقدر ما يتعلق بحربنا اللاأخلاقية مع خصوم السياسة، وإلا كيف يمكن لهذا الرجل أن يكون فاسداً وهو الذي اضطر للإنتقال من حقل السياسة وبريقها إلى الطابون ولهيب ناره، ألا يحتم علينا أن ننحني احتراماً لعزيمته التي لم يجد من خلالها حرجاً في أن يجعل من مخبز الطابون المتواضع مصدراً لتوفير قوت أسرته؟.
ذات يوم استقبلني في مخبزه بإبتسامته المعهودة، وسألني إن كنت أعرف صديقه الذي يقف بجواره، أجبته بالنفي دون تردد ودون أن أطيل التفكير في سؤاله، الواضح أن إجابتي فاجأته وهو ذات الشعور الذي تسرب إلي وكأن المفاجأة عدوى تنقلها الكلمات، قال هذا "البابلي" موسيقار العراق الكبير، حاولت أن اخفي خجلي من جهلي له بكلمات تحمل الكثير من المجاملة، بعد ايام من اللقاء العابر نقلت الفضائيات المصرية خبر احياء الفنان العراقي "البابلي" لأمسية موسيقية في مقر حزب الوفد بحضور لفيف من القيادات السياسية والمجتمعية المصرية.
القاهرة ليست كباقي العواصم العربية، هي ملجأ لكل من ضاق وطنه به، تزدحم شوارعها بمن جاء إليها من الدول العربية التي تقاتل الأخوة على حكمها، اللهجة تتكفل بتعريف هويتهم، العراق وسوريا وليبيا واليمن وتونس وفلسطين، الصراع على الحكم في مجتمعاتنا العربية بقدر ما سفك من دماء الوطن بقدر ما قتل من ابداعات مواطنيه.

د. أسامه الفرا