بادئ ذي بدء ...
كنت قد احتجبت عن كتابة ونشر المقالات في المواقع الالكترونية الإخبارية، فلا يخرجني من عزلتي تلك إلا "الشديد القوي" كما يقال بالأمثال المصرية الدارجة، ولعل انتخاب أحمد أبوالغيط أمينا عاما جديدا لجامعة الدول العربية يعد واحدا من الشدائد التي أجبرتني على الخروج من عزلتي واحتجابي كتابة مقال سياسي في شأننا العربي المزري.
في ظل التناقضات الحادة والمؤسفة التي يحفل بها واقعنا العربي المتهالك، وبغياب النظرة القومية السديدة التي راهن عليها طويلا أصحاب الفكر القومي طيلة عقود خلت، فيما علا السطح بعدها ضعف الروابط والوشائج العربية وغلبة النظرة القطرية المتشنجة والتي أنهكت الأمة ومزقتها شذر مذر وزعزعت مكانتها، ها هي الأحداث المتلاحقة تثبت لنا بأن لا أمل يُرتجى لأمتنا العربية كي تنهض من كبواتها وتنفض عنها مآسيها وتزيح عن كاهلها تداعيات نكباتها السياسية والاقتصادية المتلاحقة، لتسترد بعضاً من كرامتها وجزءً من عزتها المضاعة، وما انتخاب أحمد أبوالغيط مؤخرا ليكون "أمينا!!!" عاما لجامعتنا العربية المتهالكة إلا مؤشراً على استحالة نهضتها من كبوتها تلك!!.
كلنا قد قاسينا الأمرين من ضعف وسوء أداء جامعتنا العربية التي تأسست لخدمة قضايا الأمة واستنهاضها لتأخذ مكانتها المتميزة بين أمم الأرض، فإذا بها وبعد هذه العقود من الزمن جثة هامدة ينطبق عليها ما نردده بأمثالنا الجميلة: إن حضر لا يُعَدُّ وإن غاب لا يفتقد!!، ومن كان يتأمل خيرا بها وباحتمال إعادة الحياة إلى مؤسساتها فهو واهم وساذج، لاسيما بعد توارد أنباء اختيار أحمد أبوالغيط ودون منافس ليكون "أمينا عاما !!" لجامعتنا العربية للحقبة الزمنية القادمة!!.
لو كانت النية صادقة مخلصة لدى قادة أقطارنا العربية للنهوض مجددا من كبوتنا وإحياء دور الجامعة العربية لتم اختيار شخص مستقل متزن الأداء قومي التوجه، حيّ الضمير والوجدان، يتحسس قضايا الأمة ولا يقبل أن يكون شاهد زور على موت أمتنا السريري، على درجة معقولة من القدرة على العطاء وحسن التدبر والابتكار وطرح المبادرات وإيجاد الحلول والخروج بهذه الأمة من حالة الاحتضار التي تمر بها، فهل ياترى أن أحمد أبوالغيط يتصف بهكذا صفات شفافة موضوعية كي نشعر بشيء من التفاؤل بمستقبل زاهر واعد وترتسم البسمة على وجوهنا بغد عربي مشرق براق!؟.
وجوابي البات والقاطع إزاء تساؤلي ذاك هو لا ... ودليلي في ذلك يكمن في السيرة الذاتية لهذا الرجل، وتعالوا لنستذكر مسيرة هذا الرجل حين كان وزيرا لخارجية نظام مبارك كي نتمكن من الإجابة عن تساؤلنا آنف الذكر فلا نظلم الرجل ونطلق الأحكام بحقه جزافا، وكما قيل بالأمثال المصرية: الميَّه تكدب الغطاس!!.
لقد شغل هذا الرجل منصب وزير خارجية جمهورية مصر العربية منذ تموز/ يوليو 2004 حتى آذار / مارس 2011، فلم يتقن هذا الرجل غير الدفاع المستميت بشراسة ووقاحة متناهية عن سياسات رئيسه المخلوع حسني اللامبارك المناوئة تماما لمصالح مصر القومية الحقيقية، وساهم في تقزيم دور الشقيقة الكبرى مصر عربيا وأفريقياً ودولياً كما وأحدث فراغاً في المكانة التي كانت تتمتع بها مصر قبل أن يمسك بوزارة خارجيتها، ولم يقتصر الأمر على الشأن المصري الداخلي، بل شمل الشأن العربي أيضا، فبعهده "اللاميمون" تم تقسيم السودان، وتحكمت "إسرائيل" فى مياه النيل، كما وتصاعدت حدة اللهجات لدول حوض النيل لاقتسام مياه النيل وتقليص حصة مياه مصر منه، وفي عهده اتسع دور الكيان الصهيوني في أفريقيا فيما تراجع دور مصر!!، وبعهده "اللاميمون" انتقل ملف القضية الفلسطينية من مكاتب وزارة الخارجية المصرية ليصبح من اختصاصات جهاز المخابرات المصرية العامة الذي يديره اللواء الراحل عمر سليمان!!، ولعل أسوأ ما صنعه هذا الرجل والذي لم ولن ننساه ما حيينا موقفه الصامت والمهين أثناء انعقاد المؤتمر الصحفى بينه - كوزير لخارجية مصر- مع تسيبنى ليفنى وزيرة خارجية الكيان الصهيوني التى قامت باستغلال توقيت المؤتمر الصحفي هذا لتعلن من القاهرة وبكل تبجح ووقاحة قل نظيرها بداية الحرب على غزة عام 2008 وهو ما نال سخط وغضب الكثيريين داخل مصر وخارجها!!.
والحديث ذو شجون بحق هذا الرجل وما اقترفه من جرائم بحق مصر وقضايا العرب القومية، ولقد لاحقت الرجل حين كان وزيرا لخارجية مصر فكتبت بحقه وحق نظامه الفاسد مقالات عدة لعل أهمها مقال بعنوان "مسامير وأزاهير (128)... التمسوا العذر لـ (أبو الغيط) يا سادة!!" كان قد نشر في المواقع الإخبارية الألكترونية بتاريخ 2/1/2010 تطرقت فيه لجملة مؤشرات سلبية على أداء الرجل اللاقومي وما أظهره من عداء سافر لقضايا الأمة، فتحدثت عن الجدار الفولاذي – سيء الصيت- حين بدء بغرسه في قاع الأرض على الحدود الشرقية للشقيقة الكبرى مصر بمسافة ثلاثة عشر كيلومتراً وهي المسافة الفاصلة لحدود مصر مع شقيقتها الأصغر والأضعف والمحاصرة (غزة)، وما أعقب ذاك من إصرار السلطات المصرية على منع قافلة (شريان الحياة 3) من الإبحار من ميناء العقبة باتجاه ميناء نويبع المصري وتغييرها نحو العريش، وما صدر من تصريحات لهذا الرجل وترديده لمفردة (الأمن القومي المصري) تارة، و(سيادة مصر الوطنية) تارة أخرى لتبرير عداء نظام مبارك لحماس وغزة ومحاباته للكيان الصهيوني آنذاك!!، وطرحت جملة تساؤلات منها: إن كانت سيادة مصر الوطنية باتت انتقائية عند السيد ( أبو الغيط )!؟، أم أنها قد صارت مفردة مطاطة هلامية التكوين لها تفسيرات مختلفة عنده بحيث تأتي بالشكل الذي يراه ويرتأيه فيبرر بانتقائية عجيبة إقامة الجدار الفولاذي من منطلق الأمن القومي المصري وسيادتها برغم الانتقادات التي وجهت لحكومة مصر - داخلياً وخارجياً - لتنفيذها هذا الجدار وما سيعنيه من زيادة تضييق حصار أبناء غزة فيما يترك باقي الحدود الشرقية لسيناء الملاصقة للكيان الصهيوني سائبة دونما مراقب إلا من عدد محدود من رجال حرس الحدود المصري!!، ولم يتوقف تساؤلي عند هذا الحد، بل عمدت لإزالة ورقة التوت عن عورة نظام مبارك بما يتعلق بالسيادة الوطنية المصرية من خلال تساؤلاتي التالية:
أولاً ... كيف يرى أبوالغيط انتقاصاً في سيادة مصر الوطنية فيما لو مرت قافلة (شريان الحياة 3) من منبع نويبع المصري المطل على البحر الأحمر، ولا يراه انتقاصاً لذات السيادة فيما لو حطت تلك القافلة رحالها في ميناء العريش المصري المطل على البحر الأبيض المتوسط!!؟
ثانياً ... وهلا برر لنا السيد أحمد أبو الغيط أيضاً سبب نكرانه لمصرية قرية (أم الرشراش) التي صار اسمها اليوم (ميناء إيلات) فيما تشبثت حكومة مصر بأحقيتها بمثلث حلايب المتنازع عنه مع السودان الشقيق !!؟، ألا تشبه قضية (مثلث حلايب) التي أصرت حكومة مصر على مصريتها بقرية (أم الرشراش) المصرية التي سيطرت عليها "إسٍرائيل" وأقامت عليها ميناء إيلات !؟، أم أن الحديث عن قرية (أم الرشاش) محرم مادام الأمر يتعلق بالكيان الصهيوني المغتصب لتلك القرية العربية المصرية!!؟.
ثالثاً ... وهلا أجابني أبوالغيط عما تم بشأن قضية محاكمة مجرمي الحرب من الجيش الإسرائيلي المتهمين بقتل أسرى من الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973 والتي جددت مصر عام 2003 مطالبتها بالنظر في القضية!!.
ختاما ...
قد ينبري من يدافع عن "أبو الغيط" باعتبار أنه لطالما كان قد اعترف وصرّح بأنه لا يصنع السياسة الخارجية وإنما يشارك في تنفيذها ـ فى محاولة منه لإبعاد تبعة اللوم من أن تقع على عاتقه بالكامل-، وإذا كانت السياسة الخارجية المصرية لا تخرج عن النطاق الذي رسمه لها الرئيس المخلوع مبارك، فإن ذاك لا يعفي أبو الغيط من مسؤولية تحجيم دور مصر العربي والإفريقي والإقليمي حين لم يقم بدوره الطبيعي بالتوجيه والنقد وإبداء المشورة للرئيس المخلوع مبارك!!.
ذلكم هو أبوالغيط بماضيه الملطخ بالعار والشنار حين كان وزيرا لخارجية نظام اللامبارك، فتحملوا تبعات اختياركم له ليكون أمينا عاما لجامعة الدول العربية!!.
قال تعالى في محكم آياته: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" ... (الكهف:103-104).
بقلم/ سماك العبوشي