في كل مرة يتأزم فيها الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والذي كان لفترة ما قبل اوسلو جوهر الصراع العربي الإسرائيلي،كنا نرى تحركات عربية واقليمية ودولية على شكل مبادرات سياسية تارة تقودها امريكا واخرى الرباعية الدولية وبلدان اوروبية متعددة مثل فرنسا،كندا،استراليا وغيرها،وجوهر هذه المبادرات التي يتلقفها دائماً الطرف الضعيف والمضعف لنفسه بفقدان إرادته وقراره المستقل العرب والفلسطينيين،في حين ترفضها اسرائيل القوية والمدعومة من قبل اصحاب المبادرات انفسهم،والتي تاتي جميعها بدون استثناء،من اجل الإستمرار في ادارة الصراع وليس حله،فهي تاتي لكي لا يخرج هذا الصراع عن السيطرة،وتمدد مفاعيله وتطوراته وانعكاساته على الساحتين العربية والاقليمية،فهو من زاوية قد يشعل غضب الجماهير العربية والإسلامية ويزيد من حالة تنامي العداء والكره والحقد على "اسرائيل" ومن جهة أخرى يسبب حرجاً لهذه الأنظمة ويكشف عجزها وانهيارها وحتى تواطؤها،وأي من هذه المبادرات لم يأت ليتفق مع قرارات الشرعية الدولية والعمل على تنفيذها،بدل استمرار التفاوض حولها،والتي في الغالب تعطلها الأطراف صاحبة المبادرات تلك،وكذلك هي لم تلامس في سقفها الأعلى الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني،في العودة وتقرير المصر والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف على حدود الرابع من حزيران /1967،بل جوهر الطرح يقوم على أساس ما يسمى بخطوات بناء الثقة تحسين شروط وظروف حياة الشعب الفلسطيني تحت الإحتلال، واطلاق سراح عدد محدود من الأسرى وزيادة تصاريح عمل للعمال الفلسطينيين في القدس والداخل الفلسطيني -48 -،دون ان تلتزم اسرائيل لا بوقف الإستيطان او تجميده،بمعنى تصبح المبادرة تشريع لما يقوم به الاحتلال من استيطان،بسكوت ورضى فلسطيني.
اليوم بعد تصاعد الإنتفاضة الشعبية ودخولها للشهر السادس،والتي أدخلت حكومة الإحتلال والمجتمع الإسرائيلي في مأزق،ونسفت منظومته الفكرية والسياسية والأمنية،كان لا بد من طرح مبادرة سياسية جديدة من شأنها،ان تمنع تصاعد وتطور الانتفاضة الشعبية،وبما يخرج الأوضاع عن دائرة السيطرة الإسرائيلية،حيث انسداد الأفق السياسي،ورفض حكومة الاحتلال تقديم أي تنازلات جوهرية،من اجل العودة للتفاوض،وكذلك الحالة التي وجدت فيها السلطة الفلسطينية فيها نفسها بين المطرقة والسنديان،الإحتلال يشدد من عمليات قمعه وخنقها الاقتصادي ويعمق من ازمتها،وبالمقابل القوى والأحزاب والمؤسسات المجتمعية والحراكات الشبابية تطالب السلطة بمراجعة اتفاقياتها الأمنية والإقتصادية والسياسية مع حكومة الاحتلال،وما يعنيه ذلك من تغير في دور ووظيفة السلطة.
المبادرة الفرنسية والتي طرحت من قبل وزير الخارجية الفرنسي السابق،لم تقبل بها إسرائيل ولا أمريكيا،والتي رأتا فيها انها تخرج المفاوضات من المرجعية والرعاية الأمريكية الحصرية،وأنها تحدد سقف زمني لإنهاء الإحتلال،رغم انها حوت الكثير من القضايا الخطيرة القاتلة للمشروع الوطني الفلسطيني،ولكن تلك المبادرة اجهضتها أمريكا وإسرائيل في حينه،والان تعود فرنسا لطرح مبادرتها من جديد،من خلال عقد مؤتمر دولي ومجموعة داعمة لعقده من دول عربية وعالمية،وقالت فرنسا بانها ستعترف في الدولة الفلسطينية مباشرة اذا ما فشل مثل هذا المؤتمر،ولكن لم يمضي على طرحها هذا عدة أيام،بعد أن رفضت إسرائيل التعاطي معها واعتبرتها بانها تشجع الفلسطينيين على "الإرهاب" المقاومة،حتى تراجع وزير خارجيتها قبل لقاءه مع مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية عن ذلك،ليقول بان فرنسا لن تعترف بدولة فلسطين مباشرة اذا فشلت المفاوضات،وان هذه المبادرة مهمة لكي لا ينفجر برميل البارود في الضفة الغربية،والمبادرة الفرنسية هذه سيجري تجويفها وتفريغها من محتواها من قبل أمريكا،وبما يخرجها من التداول،حيث المطلوب حالياً ان يكون هناك حركة مشاغلة سياسية كوقت مستقطع لحين الإنتخابات الأمريكية في تشرين الثاني القادم موعد الإنتخابات الأمريكية الجديدة،وبعد تشكيل الحكومة الأمريكية من إدارة جديدة،سننتظر شهرين لكي تطرح علينا الإدارة الأمريكية مبادرة جديدة تنسخ المبادرة الفرنسية،على ان تراعي المبادرة الجديدة ما يتحقق من وقائع جديدة فرضتها إسرائيل بالقوة،من سيطرة على الأغوار،تسمين وتوسيع المستوطنات القائمة،تحويل المستوطنات الصغيرة الى مستوطنات كبرى،وإقامة مستوطنات جديدة،وطبعاً الذين يعانون من عقدة الإرتعاش السياسي الدائم في التعامل مع أمريكا من العرب والفلسطينيين سيتلقفون هذه المبادرة،فلا يجب عليهم رفضها حتى لا يعطوا إسرائيل مبرراً للرفض!!!،وإسرائيل كالعادة سترفضها،وبالتالي يصبح مطلوب من الأطراف العربية والفلسطينية،تقديم تنازلات جديدة،لكي لا تسقط الحكومة الإسرائيلية القائمة،اذا ما قبلت تلك المبادرة كما هي،ويستمر الجدل البيزنطي العقيم حول تلك المبادرة،مع استمرار إسرائيل في تنفيذ مشاريعها الإستيطانية والتهويدية على الأرض.
وطبعاً سيستمر هذا لحين تشكل حكومة إسرائيلية جديدة،لكي تبدأ التفاوض مع السلطة الفلسطينية من خلال ما فرضته من وقائع على الأرض،حيث ان الإتفاقيات السابقة تجاوزها الواقع،تماما كما يجري الان من إعادة طرح التفاوض على اتفاق المعازل ،اتفاق أوسلو، وفتحه من جديد،كما جرى فتح اتفاق الخليل،بحيث يجري التفاوض حول المناطق المصنفة (A) الخاضعة للسيطرة الأمنية والإدارية الكاملة للسلطة الفلسطينية،فالحديث الان يدور عن تسليم وإعادة سيطرة السلطة على اريحا ورام الله،واذا ما إجتازت الإمتحان من خلال حفظ الأمن،ومنع أية عمليات ضد إسرائيل،واعتقال المقاومين،سيجري عقد جلسة تقييم جديدة بحضور جنرال امريكي،لكي يصادق على شهادة حسن السلوك،وتسليم المزيد من المناطق الى السلطة الفلسطينية،من ضمن المناطق التي كانت تحت سيطرتها الكاملة،مناطق (A)،واذا لم يصادق الجنرال الأمريكي يتم تمديد المدة وهكذا دواليك.
أي بؤس هذا الذي وصلنا اليه ...؟؟،في كل مرة "نجرب المجرب" ونقنع انفسنا بان إسرائيل في مازق ونحن نحقق المزيد من الإنتصارات،تلك الإنتصارات الورقية،ندفع ثمنها المزيد من الإستيطان وتكرس المشروع الصهيوني،ولذلك علينا مغادرة نهج وعقدة الإرتعاش السياسي الدائمة،والتقديم المستمر للتنازلات،التنازل تلو التنازل والقبول بمبادرات،ليس الهدف منها سوى استمرار إدارة الصراع لا حله،والحل فقط يكمن بوحدتنا وانهاء الإنقسام،ورسم استراتيجية فلسطينية موحدة تقوم على الصمود والمقاومة،لكي تغير في ميزان القوى وتعمل على تحويل المشروع الصهيوني الإحتلالي الى مشروع خاسر،حينها ستتحول تلك المبادرات الى مبادرات لحل الصراع لا إدارته.
بقلم/ راسم عبيدات