بين الذكاء والحكمة

بقلم: عماد شقور

 


خبر جيد لإسرائيل وللإسرائيليين: ما زال امامكم من عشرة إلى عشرين سنة من المكاسب والانتصارات.
خبر سيئ لإسرائيل وللإسرائيليين: سيدفع ابناؤكم واحفادكم ثمن سياسة الغطرسة العنصرية الحمقاء التي تديرون.
سيكون الثمن باهظا. وانا لا اقول ذلك بفرح كامل. فاغتباطي بقرب تحرر الشعب الفلسطيني من نير طغيان وعنصرية واحتلال الحركة الصهيونية واسرائيل لفلسطين وشعبها، يخالطه شيئ كثير من ألَمٍ وحزن لما يزرعه ساسة اسرائيل من حقد ومَيلٍ جارف في نفوس اطفال فلسطين للانتقام الفوري، واكثر من ذلك: الانتقام في مقبل الايام، من الابناء المنكوبين بآبائهم العنصريين، غلاظ القلوب، من امثال نتنياهو وليبرمان وبنيت وغيرهم، حتى من بعض قيادة المعارضة الذين اسروا انفسهم في ملعب نتنياهو وراحوا يهاجمونه من اليمين. حتى لينطبق عليهم القول: الآباء يأكلون الحُصرم، والأبناء يضرسون.
ليس هذا كلام عرّافين يرجمون في الغيب. انه حقيقة يدركها كل من يتمعّن في روايات التاريخ، ويدقق النظر في احداث الحاضر، ويحلل معاني ما يشهده ويشاهده، ويعي معنى التطورات المحلية، والتطورات على صعيد المنطقة والعالم، فيعرف باليقين اتجاهات رياح العصر، وما تحمله سنوات العقود المقبلة من تغيرات.
يعلمنا التاريخ حقائق لا تحصى، من بينها حقيقتان جوهريتان: اولاهما، انه لا يمكن لاي عنصرية عرقية او دينية او غير ذلك ان تعود على اصحابها باي خير. وثانيتهما، ان الغَلَبة في نهاية المطاف من نصيب من ينفتح على الآخر، المختلف عرقيا او دينيا او لون بشرة، دون شروط مسبقة؛ يحرص على حقوقه الذاتية، ولكنه لا يصادر حقوق الآخر؛ يتعايش معه بسلام، ويقيم معه علاقات صداقة واحترام وتكامل. السياسة الاسرائيلية عكس ذلك تماما. فهي سياسة تمييز عنصري مقيت تجاه الفلسطينيين في اسرائيل، وهي احتلال واستعمار وحصار وبطش في ما تبقى من ارض فلسطين، وهي عداء وتآمر على الجوار العربي، وارتباط مع كل اعداء دول المنطقة وشعوبها.
لا يمكن لمثل هذه السياسة ان تحرز مكاسب حقيقية على المدى الطويل، بالمعنى التاريخي للكلمة. فالتحالفات الذكية مع قوى عظمى بعيدة، ليست بديلا حكيما عن ضرورة بناء علاقات تعايش وتعاون مع المحيط الاقرب ودول الجوار. مبنية على نزع الجموح الارعن في استخدام القوة العسكرية للتوسع وهضم حقوق الآخرين. لا فائدة من ذكاء بلا حكمة.
لا يشكل التفوق العلمي والعسكري الحالي لاسرائيل ضمانة اكيدة لمستقبلها. هذا التفوق ليس مخلّدا، والتخلف العربي ايضا ليس قدرا. لكن الاعتماد على هذا التفوق العلمي والعسكري وجعله اساسا تقوم عليه سياسة التمييز والعنصرية، يشحن ضحايا هذه السياسة بكم هائل من مشاعر الغبن، تنفجر انتقاما قاسيا عندما تتغير الظروف.
تحضرني، في هذا السياق، واقعة رواها لي صديقي علي بشير قبل عقدين من السنين، ايام دراسته الجامعية. كانت تلك واقعة خوضه، هو ورفاقه من الطلاب العرب في الجامعة العبرية في القدس، في ثمانينات القرن الماضي، صدامات ومواجهات عنيفة، استخدمت فيها العصي والهراوات والجنازير الحديدية، مع طلاب يهود عنصريين، كان من ابرزهم تساحي هَنغبي(ابن غئولا كوهين، قائدة حزب "هتحياة"، (أي "البعث")، العنصري، ويشغل حاليا منصب رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، وهي الأهم بين لجان البرلمان الاسرائيلي)، وكذلك افيغدور ليبرمان، القائد العنصري الاسرائيلي المعروف بغطرسته الحربجية، رئيس حزب اليمين المتطرف "اسرائيل بيتنا"، ووزير خاجية اسرائيل سابقا. قال لي صديقي علي: "كانت لي، بعد المواجهات العنيفة، مواجهة كلامية مع ليبرمان، قلت له: يمكن ان كان اباك اكثر معرفة بالعالم وحقائقه من ابي، لكنني انا الآن مثلك علما ومعرفة، وسيكون ابني لاحقا افضل من ابنك وسيتقدم عليه"… وتتابعت الايام ليكون "سلام" اصغر ابناء علي من المتفوقين، إلى درجة انه كان طوال العام الدراسي، (وهو في الصف العاشر)، يمضي من ايام الدراسة الاسبوعية الخمسة، ثلاثة ايام فقط مع زملائه، بينما يُمضي يوما دراسيا خاصا في المعهد التكنولوجي "التخنيون" في حيفا، (وهو على مدى سنوات عديدة، وحتى الآن، مُصنّفٌ بين الجامعات الخمسين الاولى في العالم)، ويمضي اليوم الخامس في مدرسته في سخنين مع استاذ ترسله التخنيون خصيصا اليه، لمتابعة تدريسه ومواكبة تقدمه. وفي العام الدراسي الذي تلاه، كان الطالب سلام يقضي اربعة ايام دراسة وبحث وتخصص شهريا في "معهد وايزمن في رحوفوت"، الاهم بين معاهد الابحاث العلمية في اسرائيل.
من القضايا الشخصية الصغيرة، ذات الدلالة على اتجاه الريح، إلى القضايا العامة… لايمكن ان يستقيم ويستقر الوضع على ما هو عليه الآن في اسرائيل وفي العالم العربي. او كما عبّر عنه الصديق عودة بشارات في مقاله الاخير في هآرتس: ان يبقى رأس اسرائيل في الغرب، في حين ان يديها ورجليها منغرزة في الشرق (الاوسط، العربي)، فذلك ما لا يمكن له ان يستقيم.
تتابع اسرائيل هذه الايام باغتباط واضح، الوقائع والاحداث المزرية على الساحة الفلسطينية، والدموية على كامل دول الجوار العربية.
صحيح ان الوضع الفلسطيني يعاني من حالة انقسام، ومن تشرذم لقواه، ومن انعدام دور لقياداته الفكرية، ومن شلٍّ واقصاءٍ للشخصيات المستقلة غير المنضوية تحت لواء هذا التنظيم او ذاك، حيث ادّى كل ذلك إلى انعدام وجود استراتيجية سياسية واضحة متكاملة تراكم نتائج العمل الوطني والنضال والتضحيات الفلسطينية المتواصلة.
وصحيح ان الوضع العربي برمته في اسوأِ حال. حروب وقتال ودماء ودمار، انقسامات وتخلف وشعوذات، وتحالفات مشينة. ولا بشائر في الجو لقرب انقشاع الغمامة التي تغطي كامل عالمنا العربي الحبيب، ولا لقرب انقشاع الغشاوة عن عيون عددغير قليل من الحكام الذين ابتُلي بهم ا.
لكن هذا الوضع الفلسطيني والعربي المأساوي، المحزن في بعض جوانبه، والمخزي والمشين في جوانبه الأخرى، إلى زوال. لن تطول هذه الحالة الفلسطينية والعربية. ومهما طالت، فلا بد من ان يبدأ العرب بمجملهم في التعافي، وصولا لبدء مرحلة اللحاق بموكب العصر.
نعرف هذا من دروس التاريخ. فبعد الوادي العميق جبل، وبعد الهزيمة، او حتى مسلسل الهزائم، نصر. فالشعوب والامم هي الخالدة، وليس الظروف، مهما كانت.

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور