دوماً ما حاولت القيادة الفلسطينية أن تنأى بنفسها بعيداً عن جاذبية الاستقطاب في المنطقة، وعملت على نسج علاقات مع دول المنطقة دون استثناء، وبنت استيراتيجيتها على مبدأ استقلالية القرار الفلسطيني من جهة وعدم التدخل في الشأن الداخلي لأي دولة من جهة أخرى، ولم تجد ما يعكر صفو فلسفتها سوى بعض التدخلات المحصورة التي كانت تجري عن بعد من خلال احتواء بعض قيادات الفصائل الفلسطينية، والمحاولة الأبرز في هذا الشأن التي لم يكتب لها النجاح كانت حرب المخيمات في لبنان، وإن حاول البعض أن يجعلها في سياق تقزيم نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، إلا أن ذلك لا يخفي حقيقتها المتمثل في ترويض القرار الفلسطيني وإدخاله بيت الطاعة.
حاولت بعض الأنظمة العربية التأثير على القرار الفلسطيني معتمدة على تواجد قوات الفصائل الفلسطينية على أراضيها، بقدر ما حاولت الفصائل الفلسطينية أن توازن بين قرارها المستقل وحاجتها لموطيء قدم لها، إلا أنها لم تتمكن من السير على الخيط الرفيع الفاصل بينهما، حيث تراوحت مواقف الفصائل الفلسطينية بين رفض الاحتواء جملة وتفصيلاً وما نتج عنه من خلاف وصل حد التصادم، وبين فصائل ارتمت في أحضان النظام وتحولت إلى أداة بيده، وبينهما فصائل حاولت أن تحافظ على تواجدها بأقل قدر ممكن من الخسائر لخدمة محور الممانعة، رغم ذلك استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية أن تخرج بالحد المطلوب من التماسك الذي يحفظ لها استقلالية قرارها.
الحالة الإقليمية اليوم باتت أكثر تعقيداً، سواء ما يتعلق منها بطبيعة العلاقة مع الأطراف المختلفة في المنطقة ومدى انعكاس كل منها على الآخر، وأيضاً المساحة الآخذة في الاتساع في تدخل بعض الدول في الشأن الفلسطيني الداخلي والذي يغذيه الانقسام الفلسطيني، الواضح أن الموقف الحيادي الذي تفرضة الحاجة الفلسطينية لنسج علاقات مع الجميع دون استثناء لم يعد مقبولاً في ظل التمحور الذي تشهده المنطقة، وأن مساحة العمل التي تمتعت بها القيادة الفلسطينية في السابق في علاقاتها الإقليمية آخذة في التقلص، بل بتنا نقترب من مفترق طرق يجبرنا على تحديد وجهتنا، ومؤكد أن الأطراف المختلفة تسعى لأن تكون فلسطين بجانبها، لما تمثله فلسطين من مكانة روحية ومركز إجماع لدى شعوب المنطقة.
قديماً كان الجميع يتفهم موقف القيادة الفلسطينية الذي يحتم عليها تشييد جسور العلاقة مع دول المنطقة المختلفة، دون أن تشكل أي منها حساسية لدولة أخرى، لكن الواقع اليوم مغاير لا يعطينا المساحة المطلوبة التي تمكننا من تجاوز مفترق الطرق، وما يزيد الطين بلة حالة الانقسام الفلسطيني التي تزيد الأمور تعقيداً، كنا دوماً نرحب باي مساعدة تقدم للشعب الفلسطيني دون أن نثير بذلك حفيظة أحد، ودون أن تلقي بإنعكاسات سلبية في علاقاتنا مع دول أخرى، فعلى سبيل المثال المساعدات التي قدمها الرئيس العراقي "صدام حسين" لأسر الشهداء في فلسطين لم تخلق شيئاً من الحساسية التي رافقت قرار ايران بمساعدة اسر شهداء هبة القدس، رغم أن علاقة النظام العراقي في تلك الآونة مع العديد من دول المنطقة اتسمت بالتوتر.
لم يعد خافياً على أحد تدخل بعض الدول في الشأن الداخلي الفلسطيني، لعل أكثرها جرأة تلك المتعلقة بالحوار مع دولة الاحتلال فيما يتعلق بمشروع ميناء غزة، الذي تقوده قطر تارة وتركيا تارة أخرى في غياب مرجعية فلسطينية له، لا شك أن الانقسام الفلسطيني يعقد كثيراً من طبيعة علاقاتنا مع دول المنطقة، ويشكل باباً واسعاً ينفذ من خلاله البعض للتدخل في شؤوننا الداخلية، وإذا ما استمر الانقسام الفلسطيني على حالة سنجد أنفسنا في خضم أمواج متلاطمة تجتاح المنطقة تقذف بنا يميناً وشمالاً تفقدنا القدرة على الخلاص من براثن دوامتها.
بقلم/ د. أسامه الفرا