على بعد أمتار قليلة من الباب الخشبي العتيق لقصر رغدان في العاصمة الأردنية "عمان"، اصطف في بهو القصر أبناء الملك حسين لإستقبال المعزين بوفاة والدهم، سلسلة بشرية طويلة من فئات المجتمع المختلفة امتدت خارجه ممن جاءوا لتقديم واجب العزاء في ملكهم، المشهد بحد ذاته يترجم حالة الحب التي استطاع أن ينسجها الملك حسين مع شعبه ببراعة فائقة على مدار سنوات حكمه، والمشهد ذاته يفرض السؤال هل بإستطاعة الملك الشاب، عبد الله الثاني الذي عين ولياً للعهد قبل ايام قليلة، أن يقود الأردن التي دوماً ما كانت بحيرة هادئة وسط أمواج متلاطمة؟، وهل يمتلك شيئاً من حنكة والده في ادارة الحكم ونزع فتيل الأزمات التي يمكن لأي منها إن تدحرجت أن تطيح بحكم الأسرة الهاشمية؟.
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لملك الأردن "عبد الله الثاني" اثناء زيارته التفقدية لأسرة فقيرة، الملاحظ أن الصورة نقلت مفردات تواضع الملك وحرصه الشخصي على التواصل مع أبناء شعبه، والواضح أن الزيارة تمت دون ترتيبات مسبقة، سيما وأن التصوير لا يعبر عن مهنية تذكر، بل أنه أقرب إلى تصوير عبر هاتف نقال أراد صاحبه أن يوثق هذه الزيارة، ناهيك على أن استقبال الرجل وزوجته للملك جرت بطريقة لا تنم عن تدخل يذكر في تفاصيلها يخرجها من سياقها الطبيعي، لم تكن المرة الأولى التي تنقل فيها مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو للملك وهو يلامس حياة شعبه، فقد سبق أن حملت إحداها زيارة تفقدية لسوق الخضروات وهو يتبادل أطراف الحديث مع الباعة والمواطنين، وأخرى وهو يتناول العشاء بصحبة أسرته في مطعم للمأكولات الشعبية في العاصمة عمان، إلا أن أكثرها تفاعلاً من قبل مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي تلك التي أوقف فيها الملك سيارته ليشارك في دفع سيارة مواطن غاصت عجلاتها في الثلوج.
الاردن رغم قلة امكانياتها إلا أن عجلت التطور فيها تثير الاعجاب، والواضح أن مستوى المعيشة فيه أفضل بكثير من دول تحيط به، وهو الذي جعل منها العاصمة الاغلى بالتكلفة المعيشية في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا حسب التقرير السنوي لتكاليف المعيشة في المدن الصادر عن مجلة ايكونومست البريطانية، والاردن استطاع ان يحصن ذاته من آفة الخريف التي ضربت المنطقة، ونجح في منع النيران المشتعلة في محيطه من الانتقال اليه، والأهم من ذلك أنه دوماً ما نجح في احتواء الفارين إليه من جحيم الإقتتال في الدول العربية المحيطة به، وعرف كيف يحولهم من عبيء عليه إلى طاقة تدفع عجلة اقتصاده.
الواضح أن الملك الإبن تعلم كثيراً من الملك الأب، ليس فقط في أن يجتاز بالاردن المنعطفات الحادة التي تتطلب أقصى درجات الحكمة والروية، بل حفظ عنه أهمية البعد الانساني في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأن القيادة الرشيدة تتطلب دوماً من صاحبها أن يكون على تماس مباشر مع مواطنيه، أن يستمع إليهم دون حاجب ليقف على حقيقة التقارير التي توضع على مكتبه يومياً والتي عادة ما يثقل كاهلها عبارات المديح والثناء، ومن الطبيعي أن الحاكم الذي ينشد حب شعبه لا يسمح للمحيطين به أن يشيدوا أسواراً تعزله عن مواطنيه وتقيد سلوكه الانساني والأبوي الذي يتوق المواطن لرؤيته.
كثيرة هي الصور التي تبقى محفورة في ذاكرة الشعوب، ما زلنا نحفظ للرئيس الفلسطيني "ياسر عرفات" زيارته للشيخ أحمد ياسين والجانب الانساني في العلاقة بينهما، الأرشيف لدينا يحتفظ بآلاف الصور التي جسد بها أبو عمار فلسفة الزعيم، تلك التي منحته القوة المعنوية في التأثير على الاخرين، لم يفرض ارادته على شعبه بسلطانه بل إعتمد على ثقة الناس ومحبتهم له، الرؤساء يكتبون شيئاً من التاريخ فيما الزعماء يصنعون تاريخاً يمتد لما بعد رحيلهم.
بقلم/ د. أسامه الفرا