إن التعصب ليس داءً مرتبط بدين معين بل هو داء يصيب كل الأديان. فهناك من يصر من اتباع كل دين على قراءة النص الديني قراءة أحادية عنصرية يتم توظيفها في خدمة السياسة. فالقراءة المتأنية للنص الديني السماوي تبرز أن الدين حريص على حياة الإنسان، فهناك تكريم للإنسان في كل الديانات، وهناك الحديث عن خلافته في الأرض، وحديث عن حرمة القتل بلا ذنب. ورغم اختلاف توزيع موضوع النصوص الدينية في الديانات السماوية ولكنها كلها تنطلق من مفهوم واحد يتعلق بعلاقة المخلوق بالخالق، وعلاقة المخلوق بالمخلوق. وهنا نجد القراءة الظلامية الأحادية حول علاقة المخلوق بالمخلوق. وكيف يتم توظيف الدين في خدمة السياسة بأفكارها العنصرية المختلفة. حيث يتم الاستناد على النص الديني فيما يخص بالتميز، من حيث القول بأن هناك شعب مختار أو أمة مختارة. ومن هنا يكمن التصنيف العنصري للأمم والشعوب. ولن ندخل كثيراً في إشكالية قراءة النص الديني من قبل الكثيرين، والذين يحولونه بقراءتهم إلى أداة تحريضية على قتل الآخر. فنجد التفكير العنصري الذي يوظف الدين في خدمة أهداف السياسة في صلب الحركة الصهيونية، والتي تسند على مقولات تلمودية لا علاقة لها بالنص الأصلي للتوراة. فتكريم الإنسان هو مدار حوار بين الله وملائكته في خلق أدم. وجاء التفسير التلمودي ليؤل النص بافكار عنصرية تدعو إلى قتل الأغيار " أي غير اليهود"، ومن هذه الثقافة العنصرية ولدت الحركات العنصرية الدينية في إسرائيل، وفي هذه البيئة العنصرية والمغلقة جاء المجرم باروخ غولدشتين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف بحق المصلين، وجاءت أفكار حركات سياسية عنصرية توظف الدين مثل حركة كاخ، وغوش أمونيم، وغيرها. ومن هذه الأفكار العنصرية ولدت حركات فاشية عنصرية في الغرب، حيث تقوم بقراءة عنصرية للإنجيل. وتمارس القتل ليس ضد أبناء الديانات الأخرى بل لأتباع الدين المسيحي بمذاهبه المختلفة. فالقراءة الأحادية للنص الديني التي تقوم على نفي الآخر هي داء كل الديانات بما فيها الدين الإسلامي. فهناك من يقرأ النص القرآني قراءة أحادية تقوم على نفي الأخر وإقصائه، وعلى تقسيم العالم إلى دار إيمان ودار كفر. وهناك من يدعو إلى القتل باسم الدين. وقد وجدنا هذه الأفكار العنصرية لدي العديد من أتباع الديانات في كل العصور، والحروب الصليبية خير مثال على ذلك. حيث تم قتل آلاف المسلمين وحتى المسيحيين في مدينة القدس.
ولم يفهم هؤلاء أن الدين يكرم الإنسان، وينظم العلاقة بين المخلوق والخالق من جهة، وبين المخلوق والمخلوق من جهة أخرى. وهناك الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تدعو إلى الحوار والجدال بالحسنى. وإلى الوسطية في الكره والخصام والعداء، وإلى الحرص على النفس البشرية حيث تم جعل ذلك من مقاصد الشريعة. ولكن القراءة الأحادية الضيقة للنص هو من يصنع الفكر العنصري. فالتعصب هو نقيض الإنسانية. فإذا كان خلق البشر مختلفين هو سنة ألاهية، حيث تم خلقنا شعوبا وقبائل للتعارف، والتكامل. فالاختلاف هنا ليس من أجل القتل والتدمير بل من أجل التعارف والتعاون والتكامل.
وقد تعامل المسلمون الأوائل بهذه الروح التسامحية الإنسانية وفق وصية رسولنا الكريم لقادة الجيوش بعدم قتل الشيخ والمرأة والشجرة والطفل. بل تجلت سماحة المسلمين الأوائل بعدم هدم الآثار العمرانية للشعوب السابقة. وتعامل مع هذه الآثار على أنها تراث إنساني. فلم يتم هدم المعابد الفرعونية، ولا الأهرامات، ولا المعابد الوثنية في العراق وغيرها من الأماكن. فبقيت كنوز الحضارة البابلية والأشورية، وبقيت آثار شعوب باكستان وتركستان وأفغانستان، وبقيت كما أسلفنا حضارة الفراعنة. فهل مدعي الإسلام اليوم ومتعصبيه أكثر إسلاماً وأكثر إيماناً من الصحابة والتابعين عندما دمروا آثار الحضارات السابقة في أفغانستان والعراق وسوريا. وهل هؤلاء حريصين على الإسلام وعبادة المسلمين من الصحابة والتابعين الذين أبقوا هذه المعابد بتماثيلها بالرغم من قرب عهد الصحابة والتابعين بالأصنام. وأن فتنة هذه المعابد والتماثيل كانت أكثر خطورة على المسلمين الأوائل لقرب عهدهم بالأصنام والأوثان. وأن الفكر الإنساني اليوم قد تطور كثيرا بعيدا عن عبادة صنم أو وثن. فهل داعشي اليوم هم أكثر فهماً وتطبيقاً للنص القرآني من الصحابة والتابعين الذين امتلكوا فكرا إنسانياً رحبا. وتعامل ليس مع البشر بل مع الحجر بعقلية تقبلية مفتوحة، وباعتباره إرثاً إنسانيا للجميع.
ولذلك فإن ما يحدث الآن من تفجيرات في العديد من أماكن العالم هو تعبير عن فكر تعصبي انغلاقي، وتعبير عن قراءة أحادية للنص الديني. فكيف يتم قتل المدنيين وبينهم أطفال ونساء وشيوخ. وكيف يتم قتل بشر في المطارات ومحطات القطارات وحتى في الملاعب الرياضية كما حدث في باريس وبلجيكا. فاليوم وقد تحول العالم إلى قرية صغيرة فإن بين هؤلاء في المطارات والقطارات من هم مسلمين، وموحدين ونساء وأطفال، وأناس أمنين لم يقتلوا أحدا، ولم يشاركوا في قتل أحد. فكيف نرفض دوما سياسة العقاب الجماعي ونعتبرها ضد الإنسانية وهناك في الوقت نفسه من يمارسها بكل هذا العنف والوحشية. لقد عشت في ألمانيا وتجولت في معظم دول أوروبا. وهناك من هو مناصر لقضايانا أكثر من العديد من بني جلدتنا من العرب والمسلمين. وهناك من احتضن اللاجئين، ووفر لهم المأوى والملبس والمأكل والمشرب بفعل ضميره الإنساني أكثر مما فعل الكثير من العرب والمسلمين الذين تعاملوا مع السوريين كأجساد مستباحة للنهش ولإرضاء الشهوات المريضة. لقد شاهدنا كيف تم استقبال أمواج المهاجرين بالشموع والورود في العديد من الأماكن في الوقت الذي أغلقت فيه العديد من الدول العربية الحدود أمام هؤلاء اللاجئين. ومن الجدير بالذكر أن الحرية الدينية في الدول الأوروبية مكفولة بسلطة القانون أكثر من البلاد العربية التي تدعي الإسلام. وهناك المراكز الإسلامية منتشرة في كل مدينة، وتتلقى الدعم من الحكومات. وكل ذلك محمي بالقانون. وهناك انتشار للإسلام بين الأوروبيين بفعل البعد الإنساني التسامحي للدين الإسلامي.
فإن ما فعلته داعش من تفجيرات لا يمت للدين الإسلامي بصلة وهو الدين ذا الفضاء الإنساني الرحب الذي يحترم الإنسان، ويحرم قتل النفس البشرية إلا بالحق. حيث أن هذه الأعمال تسيء للإسلام، وتمنع انتشاره في الغرب حيث تظهر المسلمين كإرهابيين. فإذا كان الإسلام والمسلمين الأوائل قد احترموا الحجر فكيف لا يحترمون البشر. فأعطى لنا الإسلام قدوة في احترام مواثيق القتال، وأن القتال يكون بين الجيوش وليس للمدنيين. فمن تم قتلهم في هذه التفجيرات كانوا في قطارات وملاعب ومطارات مدنية ولم يكونوا في أماكن عسكرية. فالشجاعة والعرف الحربي يجعل من هذه الأفعال أفعال جبانة وغير إنسانية. ولذلك فإن ما حدث من تفجيرات هي أعمال تعبر عن حالة التعصب والانغلاق وهي لا تمت للإسلام بصلة. وأن الإرهاب هو داء يصيب كل الديانات من منغلقي الفكر وفاقدي الضمير.
بقلم أ.د. خالد محمد صافي