أكثر ما لفت انتباه الصحفي المصري في زيارته الأولى إلى قطاع غزة بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو غياب المقاهي، سيما وأن القاهرة تعج بالكثير منها على اعتبار أنها المكان الحصري لإلتقاء الأصدقاء، لم أجد يومها سبباً أفسر للصديق المصري هذا الغياب سوى أن المواطن لا يجد متسعاً من الوقت حيث يستحوذ العمل على القسط الأكبر من حياته، هذا بالإضافة إلى أن ثقافة المجتمع ما زالت تنظر إلى المقهى بعين الريبة على إعتبار انه مكاناً لإضاعة الوقت دون طائل، لو قدر لذلك الصحفي أن يزور اليوم القطاع لن يعيد طرح السؤال ولعله يسأل عن أسباب تكاثرها.
بإستثناء القليل منها التي تشهد نشاطاً شبابياً في رحلة بحثهم عن ما يشغلهم في دهاليز المؤسسات الأهلية، والتي تتكفل العديد من المنظمات الدولية بتوفير الدعم المالي لبرامج تتنوع بين تعزيز مفهوم الديمقراطية ومشاركة المرأة في الحياة المجتمعية وتوسيع المشاركة الشبابية، بجانب بعض البرامج الإغاثية التي اثبتت تجارب السنوات السابقة عقمها في خلق تنمية مجتمعية حتى وإن كانت في صورتها المؤقتة، واللافت للإنتباه أن المحاولات المختلفة للدمج بين العمل والجانب الإغاثي انجبت لنا أفكاراً حاصرت طموح الشباب وقزمت من أحلامهم دون أن تشكل في الوقت ذاته نجاحاً يذكر في تسخير طاقاتهم لخدمة المجتمع.
الغالبية من المقاهي المنتشرة في القطاع يغلب عليها وظيفة إضاعة الوقت لروادها وغالبيتهم من فئة الشباب وبخاصة من حملة الشهادات الجامعية، إزداد جيش العاطلين عن العمل خلال السنوات السابقة بشكل مرعب، لم يعد بالامكان التغاضي عن انعكاساته الخطيرة على المجتمع سيما وأنه لا يلوح في الأفق ما يمكن لنا أن نخفف به من حدة الأزمة، بل الأقرب إلى الواقع أن الأزمة تتعمق بمكوناتها المختلفة، فمن جهة ما زالت الجامعات تضخ الآلاف من خريجيها سنوياً إلى مجتمع ينوء منذ سنوات بالخريجين العاطلين عن العمل، في غياب كامل للحد الأدنى من التوازن المطلوب بين التخصص وحاجة المجتمع، وإن كان مجتمع القطاع قد تشبع منذ سنوات بالتخصصات المختلفة التي تفوق قدرته على الاستيعاب.
المشكلة أن الجميع منا يدرك حجم الأزمة وانعكاساتها الخطيرة، بدءاً من تأثيرها داخل الأسرة مروراً بالمجتمع وإنتهاءاً بعلاقتها بمشروعنا الوطني، ويدرك الجميع أنه لم يعد لدى الشباب قدرة على استيعاب المزيد من الضغوطات بفعل غياب الأمل في مستقبل أفضل لهم في وطنهم، لم يعد الحديث حول الهجرة لديهم من المنكرات، ولم تعد الشعارات البعيدة عن الواقع تجد آذاناً صاغية منهم، ولا يمكن لأي منا تجاهل حالة الضغط النفسي التي تطبق على مفردات حياتهم، والتي نتج عنها ظواهر لا يمكن لنا عزلها عن ذلك، ارتفعت في الآونة الأخيرة الأمراض المرتبطة بالضغط الذي يتعرض له الشباب، اعتدنا مؤخراً على سماع الجلطة التي تصيب الكثير من شبابنا، وبات الحديث عن القسطرة وتركيب الدعامة من الأمور البديهية.
اختصرت فتاة جامعية عاطلة عن العمل عبر تغريدة لها على شبكة التواصل الاجتماعي ماساة الجيل الشاب، حين قدمت نصيحتها لطلبة الثانوية العامة بألا يتعمقوا كثيراً في التفكير في تخصص دراستهم الجامعية، فقط عليهم أن يحددوا الصفة التي يرغبون من النادل في المقهى أن يخاطبهم بها حين يأتيهم لتسجيل طلباتهم، ليت تغريدتها تصل إلى مسامع المجتمعين في الدوحة.
د. أسامه الفرا