بدأ العدو الصهيوني منذ عام 1948 بسرقة الأراضي العربية وأخذ يُصدر القوانين المتعددة الأسماء والأشكال لتكون سرقتها "مبررة وشرعية" (!!) فمن قانون الأراضي البور إلى المناطق المغلقة، إلى قانون أملاك الغائبين إلى مناطق الأمن، إلى استملاك الأراضي، وإرغام العرب على رهن أراضيهم، حتى تمكنت إسرائيل من تجريد العرب من حوالي مليون دونم من أخصب وأطيب أراضيهم. ولم يتوقف العدو عن استصدار "قوانينه"، وممارسة سياساته، التي تتمشى وفقا لنظريته القائلة: "ما أصبح في يدنا هو لنا، وما يزال في يد العرب هو المطلوب".
خلال حرب العام 1948 قرر ( مجلس الدولة اليهودي المؤقت ) فرض سيادة خاصة من الحكم العسكري على الجليل والمثلث، ومدن الرملة، واللد، ويافا، ومجدل عسقلان وهي المناطق التي كانت مأهولة عند انتهاء المعارك بأغلبية من العرب. كان الحكم العسكري بمثابة وحدة عسكرية داخل الجيش تشكل من ضباط وجنود يؤدون الخدمة العسكرية النظامية والثابتة وكان قائد الحكم العسكري ضابطاً في الجيش النظامي يخضع مباشرة لرئيس الأركان، ووزارة الأمن ومنذ العام 1948 وحتى العام 1968 الذي ألغى فيه هذا الجسم المؤسساتي الإسرائيلي المركزي ، وفر الحكم العسكري إمكانية المضي قدماً في بناء الدولة اليهودية من خلال إقصاء العرب عن عمليات بناء وتطوير الدولة، وتجاهل وجودهم.
استند الحكم العسكري لأنظمة الدفاع الانتدابية لحالة الطوارئ ( 1945 ) مع قوانين انتدابية أخرى وركز الحكم العسكري على خمسة من أنظمة الطوارئ الانتدابية فقط من مجموع 162 فكانت الأنظمة 110، 111، 124 تتحكم بحرية التنقل للمواطنين الخاضعين لسيطرته وتقييدها إلى حد منعها في حين أن المادتان ( 109 ) و ( 125 ) مكنتا الحاكم العسكري من منع دخول المواطنين إلى مناطق أعلن عنها مناطق مغلقة.
وقد تجسدت المهمة الرئيسية لتطبيق الحكم العسكري في فرض رقابة عسكرية مشددة على الأقلية العربية ( بثوب مدني ) والتي ضيقت حرية التنقل، وحرية العمل، وحرية الوصول لمراكز التشغيل في الصحة، والتعليم، والتجارة، والتسوق وصولاً إلى حرية العمل الجماهيري والسياسي، وبالتالي تم إخضاع الفلسطيني لنظام صارم من التصاريح لأي نشاط أو تحرك يرغب بالقيام به.
لقد كان استغلالاً لما يعيشه العرب داخل دولة إسرائيل الناشئة للحالة التي وصلوا إليها من الرعب والتشتت، ونظرة دونية لهم كعدو محتمل وجب مراقبته وتقييد خطواته، ارتكازاً للادعاءات حول صورة العربي لدى الجمهور اليهودي، لقد كان القصد ليس فقط الإقصاء بل المنع من أن تبلور هويتهم بشكل جماعي لذلك كانت تتابع ملفات كل شخصية في القرية وحول المدارس والمعلمين، والمخاتير، والمواطنين من الحكم العسكري كنوع من الرقابة رغم أنه لم يثبت أن شكل العرب داخل إسرائيل الناشئة أي خطر عليها.
لقد ظلت الأقلية العربية في إسرائيل شوكة في حلق الدولة، وظلت النظرة الحكومية من مؤسسات ودوائر مختلفة تنظر إليها كعدو وخطر محتمل رغم إنهاء الحرب عسكرياً في فلسطين .
خطة تطوير الجليل
منطقة الجليل احتفظت رغم كل المؤامرات الصهيونية بأغلبيتها العربية مع أنها المكان الذي أمعن فيه الصهاينة في تطبيق سياسة التهويد و لزيادة نسبة السكان العرب فيه عن 50 بالمائة أعلنت السلطات الصهيونية في أوائل عام 1975 عن خطة لتهويد الجليل تحت عنوان: مشروع "تطوير الجليل"، وهي الخطة التي تعد من أخطر ما خططت له حكومة إسرائيل ؛ إذ اشتمل على تشييد ثمان مدن صناعية في الجليل. مما يتطلب مصادرة 20 ألف دونم من الأراضي العربية ذلك أن نظرية الاستيطان والتوسع توصي بألا تُقام مظاهر التطوير فوق الأراضي المطورة، وإنما فوق الأراضي البور والمهملة، وهي التسميات التي تُطلق على الأراضي التي يملكها العرب.
وقد شكّلت عملية تهويد الجليل ـ وما تزال ـ هدفاً من أهداف الحركة الصهيونية وهاجسها، فقد حدد بن غوريون هذا الهدف بقوله: "الاستيطان نفسه هو الذي يُقرر إذا كان علينا أن نُدافع عن الجليل أم لا".
وتطابقاً مع السياسة الصهيونية، تجاه الأرض، فقد احتلت إسرائيل عام 1948 أقساماً واسعة من الجليل، وأقامت فيها العديد من المستوطنات، وبرر الصهاينة عملية الاستيلاء على الأراضي، بأنها أراضٍ للغائبين، ولكن الاستيلاء لم يقتصر على أراضي الغائبين، وإنما وضع يدها على "أملاك" حكومة الانتداب البريطاني، وتقدر هذه الأراضي بحوالي 2-3 مليون دونم لكن إسرائيل لم تكتفِ بتلك الأراضي، فطمعت بأراضي الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم وكان العرب يملكون حتى عام 1948 حوالي 13 مليون دونم من أصل 27 مليون دونم، بينما لم يكن للكيان الصهيوني سوى 5.1 مليون دونم، والباقي أراضٍ مشاع.
لذلك تحرك فلسطينيو الجليل، بعد أن أدركوا هدف القرار وفي 29/7/1975 عُقد اجتماع للتشاور في حيفا، حضره عدد من المبادرين لحملة الاحتجاج على مصادرة الأراضي، وقد ضم هذا الاجتماع عدداً من رؤساء المجالس المحلية، ومحامين، وأطباء، ومثقفين وصحفيين، وأصحاب أراضي وتقرر في هذا الاجتماع، تأليف لجنة للدفاع عن الأرض سُميت باللجنة القُطرية للدفاع عن الأراضي.
بعد تشكيل هذه اللجنة، دعت إلى اجتماع في الناصرة يوم 15/08/1975، واتخذت عدداً من القرارات، كان من أبرزها: الدعوة لعقد مؤتمر شعبي للمطالبة بوقف المصادرة، وإصدار نداء إلى الرأي العام لحثه على مقاومة المصادرة.
ودعت اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي لاجتماع آخر في الناصرة يوم 06/03/1976 حضره حوالي عشرين رئيساً من رؤساء المجالس المحلية، واتخذ المجتمعون قراراً بإعلان الإضراب العام يوم 30/03/1976 استنكاراً لمصادرة الأراضي.
كان تحديد ذلك اليوم ثمرة تصاعد النضال الوطني في الجليل وبلوغه مستوى كبير من التنظيم، فقبل ذلك ومنذ النكبة كانت مقاومة عرب 48 قاصرة على الدفاع "السلبي" بالتمسك بالأرض، والبقاء عليها، والتكافل فيما بينهم، ورفض محاولات التفرقة بين صفوفهم وانتظار الظروف المناسبة للهجوم، وإعداد الجيل الجديد من أبنائهم لتلك اللحظات.
بعد الدعوة لإعلان الاضراب، عمدت السلطة الإسرائيلية إلى منع حدوث هذا الإضراب وكسره عن طريق التهديد بقمع المظاهرات والعقاب الجماعي، ولم تحاول الالتفات إلى الموضوع بجدية أكثر، بل سعت إلى إفشال الإضراب لما يحمل من دلالات تتعلق بسلوك الأقلية العربية كأقلية قومية حيال قضية وطنية ومدنية من الدرجة الأولى، ألا وهي قضية الأرض. فقد عقدت الحكومة اجتماعا استمر أربع ساعات تقرر فيه تعزيز قوات الشرطة في القرى والمدن العربية للرد على الإضراب والمظاهرات. وقامت قيادة الهستدروت بتحذير العمال وتهديدهم باتخاذ إجراءات انتقامية ضدهم، وقرر أرباب العمل في اجتماع لهم في حيفا طرد العمال العرب من عملهم إذا ما شاركوا في الإضراب العام في يوم الأرض. كذلك بعث المدير العام لوزارة المعارف الاسرائيلية تهديدا إلى المدارس العربية لمنعها من المشاركة في الإضراب.
قرارات سبقت إعلان الاضراب:
1. صدور قرار بإغلاق منطقة المل (منطقة رقم 9) ومنع السكان العرب من دخول المنطقة في تاريخ 13. 2. 1976 .
2. وثيقة كيننغ / في الأول من مارس عام 1976 أعد "متصرف لواء المنطقة الشمالية الإسرائيلي" (يسرائيل كيننغ) وثيقة سرية، سمّيت فيما بعد باسمه، تستهدف إفراغ الجليل من أهله الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وتهويدها. وقدمت الوثيقة كتوصيات إلى الحكومة الإسرائيلية، وتم اختيار عنوان للوثيقة وهو: "مشروع مذكرة معاملة عرب إسرائيل". وقد حذر فيها من ازدياد تعداد الفلسطينيين في اللواء الشمالي، والذي أصبح مساو تقريبا لعدد اليهود في حينه، وأنه خلال سنوات قليلة سوف يصبح الفلسطينيون أكثرية سكانية، الأمر الذي يشكل خطراً جسيماً على الطابع اليهودي للكيان الصهيوني.
قدم كيننغ وثيقة عنصرية تضم عشرات الصفحات، دعا فيها إلى تقليل نسبة الفلسطينيين في منطقتي الجليل والنقب، وذلك بالاستيلاء على ما تبقى لديهم من أراض زراعية وبمحاصرتهم اقتصادياً واجتماعياً، وبتوجيه المهاجرين اليهود الجدد للاستيطان في منطقتي الجليل والنقب.
أهم بنود الوثيقة:
1. تكثيف الاستيطان اليهودي في الشمال (الجليل).
2. إقامة حزب عربي يعتبر "أخا" لحزب العمل ويركز على المساواة والسلام.
3. رفع التنسيق بين الجهات الحكومية في معالجة الامور العربية.
4. إيجاد إجماع قومي يهودي داخل الاحزاب الصهيونية حول موضوع العرب في إسرائيل.
5. التضييق الاقتصادي على العائلة العربية عبر ملاحقتها بالضرائب وإعطاء الأولوية لليهود في فرص العمل، وكذلك تخفيض نسبة العرب في التحصيل العلمي وتشجيع التوجهات المهنية لدى التلاميذ.
6. تسهيل هجرة الشباب والطلاب العرب إلى خارج البلاد ومنع عودتهم إليها.
أرض المل: منطقة رقم 9:
تقع هذه الأرض ضمن مساحات القرى، سخنين وعرابة ودير حنا، وتبلغ مساحتها 60 ألف دونم. استخدمت هذه المنطقة بين السنوات 1942-1944 كمنطقة تدريبات عسكرية للجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، مقابل دفع بدل استئجار لأصحاب الأرض.
بعد عام 1948 أبقت إسرائيل على نفس الوضع الذي كان سائدًا في عهد الانتداب البريطاني، إذ كان يسمح للمواطنين بالوصول إلى أراضيهم لفلاحتها بتصاريح خاصة وفي عام 1956 قامت السلطة بإغلاق المنطقة بهدف إقامة مخططات بناء مستوطنات يهودية ضمن مشروع تهويد الجليل.
بدأت الأحداث يوم 29/ 3 بمظاهرة شعبية في دير حنا، فقمعت هذه المظاهرات بالقوة، وعلى إثرها خرجت مظاهرة احتجاجية أخرى في عرابة، وكان الرد أقوى، حيث سقط خلالها الشهيد خير ياسين وعشرات الجرحى، وما لبث أن أدى خبر الاستشهاد إلى اتساع دائرة المظاهرات والاحتجاج في كافة المناطق العربية في اليوم التالي. وخلال المواجهات في اليوم الأول والثاني سقط ستة شهداء وهم:
1. خير ياسين من عرابة.
2. رجا أبو ريا من سخنين.
3. خضر خلايلة من سخنين.
4. رأفت الزهيري من عين شمس.
5. حسن طه من كفر كنا.
6. خديجة شواهنة من سخنين.
عقب ذلك عم إضراب عام، ونظمت مسيرات في المدن العربية في الجليل، ومنطقة المثلث والنقب ردا على إعلان الحكومة عن خطة لمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي في المناطق العربية والتي تقع في الشمال منها، وأرسلت الحكومة الجيش الإسرائيلي والشرطة مع الدبابات والمدفعية الثقيلة. إثر المواجهات التي اندلعت هناك بعد استشهاد ستة مواطنين عرب وإصابة واعتقال المئات.
يعتبر يوم الأرض حدثًا مهمًا في تاريخ الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، فللمرة الأولى منذ النكبة تنتفض هذه الجماهير ضد قرارات السلطة الإسرائيلية المجحفة وتحاول إلغاءها بواسطة النضال الشعبي مستمدين القوة من وحدتهم مما ترك اثراً كبيراً على علاقتهم بالسلطة وتأثير عظيم على وعيهم السياسي. ومن وقتها يقوم الفلسطينيون (أينما كانوا) بإحياء ذكرى يوم الأرض، ويتم الاحتفال باليوم أيضا في الضفة الغربية وقطاع غزة، والقدس الشرقية ومخيمات اللاجئين وفلسطيني الشتات في جميع أنحاء العالم، ويعتبرونه رمزا من رمز الصمود الفلسطيني.
بقلم / جمال ابو لاشين
* مركز عبدالله الحورانى للدراسات والتوثيق