بعد تراجع الوهج والتعاطف الدولي مع الكيان الإسرائيلي، وفشل الدبلوماسية الإسرائيلية التي كانت تستنزف دول العالم في روايتها، وفي تبرير احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتنكرها لقرارات الشرعية والقانون الدولي، واتفاقياتها الموقعة مع الفلسطينيين، باتت زيادة المقاطعات الدولية لها، وأخذت إسرائيل تخشى من سحب الشرعية عنها، وتصنيفها كدولة "الأبرتهايد" العنصرية، حتى أن بعض القيادات السياسية الإسرائيلية أخذت تحذر حكومة اليمين برئاسة "بنيامين نتنياهو" من هذا التدهور، فبدأت وزارة الخارجية الإسرائيلية بمحاولة لإنقاذ إسرائيل عالمياً، فلجأت إلى تجنيد "التوراة" المحرفة و"التلمود"، والكتب الدينية اليهودية الأخرى، في دعايتها الإعلامية، وتشكيل "مدرسة دينية للسفراء الإسرائيليين"، لتعبئتهم بنصوص الكتب الدينية اليهودية المحرفة، لتساعدهم في مهامهم الإعلامية والدبلوماسية، ولتوفير وسائل إعلامية جديدة في دعاياتهم، تعتمد على المصادر الدينية اليهودية في تحركاتهم!
نائبة وزير الخارجية "تسيفي حوطوبلي"، أوردت في خطابها الدبلوماسي، مقاطع من "التوراة" المحرفة، بشان حق اليهود في فلسطين، كل فلسطين من البحر حتى النهر، وما يطلقون عليه بـ "أرض إسرائيل التوراتية"، حيث أعلنت "حوطوبلي": أن هذه البلاد –أي فلسطين- كلها لنا، أي ملك للشعب اليهودي دون سواه، مدعية أن ذلك الوعد الإلهي حسب ما جاء في كتاب "التوراة" المقدسة لهم، وتقول: أننا لم نأت إلى هنا "إلى فلسطين"، كي نعتذر عن ذلك لأحد، وتنفي أن إسرائيل محتلة للأراضي الفلسطينية.
في كتاب صدر مؤخراً للباحث والمفكر الأكاديمي الفلسطيني "علاء محمود أبو عامر"-الحاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية- دحض فيه الرواية الصهيونية المزيفة، حول مزاعم الحق التاريخي لليهود في فلسطين، وحسب المؤلف في مراجعته واستقصائه للوثائق والروايات التاريخية المتباينة، فإنه لا وجود لشعب يهودي ومنسجم وصف ذلك بضرب من الوهم، إذ أن بني إسرائيل-حسب المؤلف- كانوا يشكلون جماعتين عرقيتين، كل واحدة تتكلم بلغة مختلفة عن الأخرى، إحداهما "عاربة" والثانية حورية هندوسية أرمينية، ومن هذا الاختلاط نتجت كل التناقضات الحاصلة في أسفار "التوراة"، فكتاب هذا الباحث يحمل "فك الشيفرة التوراتية"، يعتبر بمثابة الرد القاطع على ادعاء اليهود بالحق التاريخي والديني لأرض فلسطين.
المؤسسة الصهيونية -ومن خلال أجهزتها التنفيذية- تعمل على نشر الرواية اليهودية عن أرض فلسطين، والنفي والطعن بالرواية الفلسطينية، فمن ضمن الكتب التي أوصت وزارة المعارف الإسرائيلية بإثراء قراء المدارس بها، كتاب يحمل اسم "مغامرات مكتبة ديمونيم"، من تأليف الحاخام "يكهيب روزين" جاء فيه: أن الاغيار العرب يعيشون بقرى خاصة بهم، لا توجد لدينا أي رغبة بأن يبدأوا بالتجول بيننا، ربما سيمسون بنا، أو يتجسسون علينا، لكن من أهم ما جاء في هذا الكتاب من عنصرية والموصى به لطلاب المدارس: العرب لن يقفوا مكتوفي الأيدي، لن يوافقوا على التوقف-لا سمح الله- حتى يزيلون كل بلدة، وكل نقطة يهودية عن الخارطة، فلتعلموا: أن العرب يملكون خطة واضحة للانقضاض على كل بلدة لاحتلالها، وحرق بيوتها-ولا سمح الله-إلقاؤنا جميعاً إلى البحر، فعلينا أن لا نتنازل عن حقنا في هذه البلاد، "هآرتس 2/3/2016"، وفي تعليقنا على هذه الكتب التي يثقفون طلبتهم بها، ومثلها كثير، بينما يتهمون المناهج الفلسطينية التي تدرس في المدارس، بأنها تغذي الطلبة الفلسطينيين بالكراهية لليهود، لكن سياسة الحكومة الإسرائيلية، وكثرة تشريعاتها العنصرية، والممارسات التي تقوم بها ضد الفلسطينيين، هي التي دفعت بثلثي المستطلعين اليهود، للمناداة بطرد الفلسطينيين من وطنهم-حسب الاستطلاع- بمن فيهم عرب الداخل من حملة الجنسية الإسرائيلية، بسبب تنامي التطرف الذي تغذيهم به حكومتهم، مما يجعل استحالة التعايش المشترك بين الشعبين.
عندما يتمسكون بكتاب "التوراة" المحرفة، وتمسكهم بادعاءات بأن الله منحهم أرض فلسطين وطناً قومياً لهم، هذه "التوراة" التي لم تأت على أيدي موسى، بل جرى كتابتها في طبعات مختلفة من أكثر من مؤلف-بلغ عددهم أكثر من أربعة حسب أدبياتهم- كما أن النص "التوراتي" ينفي أن سيدنا "موسى" عليه السلام هو الذي كتب "التوراة"، إذ أن "التوراة" عبارة عن الأوامر والقوانين والشرائع، كما أن الأسفار الخمسة لم تنحصر في جبل طور سيناء، وإنما تتحدث عن سنوات التيه، التي استمرت (40) عاماً، وقبل أن يصل أبناء إسرائيل إلى طور سيناء، فالباحث "أيلون جلعاد"، طرح هذا السؤال في صحيفة "هآرتس 2/5/2015": من هم كتبة "التوراة"؟ وماذا كانت أهدافهم؟ وحسب الكاتب أنه من الواضح من النص "التوراتي"، أن أجزاء من "التوراة" لم تأت على أيدي سيدنا "موسى"، وأن قصة "موسى" كتبها مؤلف يتحدث عنه من خلال ضمير الغائب، مثلما يتحدث عن الشخصيات الأخرى، وأن كبار حاخامي اليهودي الذين وضعوا الأحاديث الدينية "الشفهية" المنقولة-بحلول القرن السادس عشر- كانوا يلتزمون في كتابة أحاديثهم بأن "موسى" هو الذي كتب "التوراة"، لكنهم واجهوا صعوبة بتصديق أنه كتب الآيات الثماني الأخيرة من سفر "التثنية"، التي تصف "موسى" موته ودفنه، هذه الصعوبة التي يعبر عنها كتاب "التلمود"، فهناك من يقول أن "موسى" كتب هذه الآيات أيضاً، وآخرون يقولون أنه كتبها خليفته "يهوشع بن نون"، واستمر هذا النقاش، وما زال مستمراً حتى اليوم.
في بداية عصر التنوير في أوروبا، بدأ مفكرون وفلاسفة يشككون علناً بأن "التوراة" لم تأت على أيدي "موسى" فالفيلسوف الهولندي اليهودي "باروخ سبينوزا" كتب في مؤلفه: رسالة في اللاهوت والسياسة في العام 1670، أنه واضح كالشمس في الظهيرة، أن "موسى" لم يكتب الأسفار الخمسة الأولى في "التوراة"، وإنما كتبها شخص عاش بعده بسنوات كثيرة، وحسب الأدبيات اليهودية، فإن "التوراة" كتبت من أربعة مصادر، على أيدي كتبة، بل أنها مركبة من أربع شهادات، قام شخص ما بدمجها كي يخلق منها وحدة واحدة.
وخلاصة القول: فإذا كانت روايتهم وتاريخهم ودعايتهم تستند على التوراة، التي يشككون بها فيما بينهم، ويعتمدون على نظرية الغاية تبرر الوسيلة حسب نظرية "مكيافيلية"، يقدسون فيها الهدف بجميع الوسائل لتحقيقه، يعملون به لتحقيق روايتهم المزيفة، حتى بالإبادة الجماعية لأعدائهم، ينطبق عليهم النص التوراتي: قتلت وورثت، فـ "التوراة" التي يعتمد عليها المفسرون اليهود، لا يختلفون كثيراً في تفسير ما ورد فيها، وخاصة في أسطورة الأرض الموعودة، والشعب الذي يجب إبادته، كي تخلوا الأرض من أصحابها، باستخدامهم جميع الوسائل والأساليب التي تنبذها جميع الديانات والمعتقدات، من أجل الاستيلاء على الأرض لتحقيق أطماعهم، فشعب يبني نظرياته التوسعية التي تعتمد على "توراة" محرفة ومشكوك فيها، فالاستنتاج أن هذه نظريات باطلة، لن تعمر طويلاً ولا يصح إلا الصحيح.
بقلم/ غازي السعدي