إنني من هنا، من فلسطين، أكتب إليكم، من الركن الذي كنت أبحث عنه، ركن حار وعابق بالعطر، في هذا المكان تتدرج حتى تصل إلى حافة الشاطئ، وتسمع صوت الناي، وصوت صفير البلابل وزقزقة العصافير، وتشم رائحة الحقول من خليط الأرض: أزهار ليلكية زاهية، وأشجار الزيتون الباسقة، وقمح أخضر وسنابل ممشوقة مثل أعناق البجع، وزهور تنبت من تلقاء نفسها، فتُحيل سطح الأرض عناقيد ذهب، كم هي المناظر الجميلة حولي، غارقة في العشب حتى خصورها!.
لقد صرت مولعاً بهذه المنطقة الهيفاء، التي حلمت بها أكثر من أي شيء آخر، أذهب إليها كل صباح، كأنني أخطو إليها، أو كأنني أحبو إليها، وفي هذا المكان تشعر بلذة غامضة، وترى بسمة الشمس، وإشراقة الربيع، وفنون الطبيعة، وسكون اليم، وتتفرج على دهشة الأطفال أمام الزرع والطيور والفراشات الملونة، إنها طريقة أخرى للمتعة والنزهة والهرب من العالم، والهرب من ضجيج الحياة، هذه الأرض تُخرج من أحشائها الفكر الخصب، والعلم والمعرفة، وتفتح الآفاق الجديدة.
يصعب جداً عليَّ وصف مشهد الطبيعة الخلابة من خلال الكلمات، فبعض الأشياء أحلام تراها ولا تصدقها، ونحن من زمن طويل نحلم بها، إنها الفردوس الأرضي، ففيها الجمال والدفء والعذوبة، إنها حالة عشق جديدة للأرض تتغير فيها الدنيا؛ فعشق فلسطين - مهد الحضارة في الكون - ليس كعشق أي شيء آخر في الوجود، إنه عشق تذوب فيه الروح داخل جسدها؛ لتمنح عشقاً أبدياً لا مثيل له.
إنها حكاية اسمها فلسطين، مثل الحكايات الرتيبة التي كتبها التاريخ على جدران أرض الشرق الساحرة، لكن قدر فلسطين كُتب عليها أن تتحمل وحدها معركة طاحنة لعب فيها الصراع دور البطولة في جميع حلقاتها، ولا أحد استطاع أن يسد رياح الحرب عنها في أحلك أزمانها، تروي الأحزان بأكثر التعابير إثارة، كالنهر الدافق من ملصقات القتل ومعلقات الاستيطان وقصائد الشهداء وآهات الأسرى، وذكريات الهجرة وأحلام العودة، وفلسطين تنوء وحدها تحت طائلة همومها في رباطة جأش نادرة، كل شيء يتحول إلى نص حزين في العمق، ومن المشاهد التي لا تنساها الإنسانية، دائماً باسم صناعة التاريخ، تبحث دائماً حولها عن دعاة الوطنية، عن هؤلاء الأبطال أو أشباه الأبطال المولعين بالسلطة، بأسمائهم الحقيقية، بنفوسهم الجميلة أو المريضة، بوجوههم الحسنة أو المقيتة، ليرفعوا الضيم عن الوطن الضائع، ويعيدوا مجده الغابر، ويكتبوا النهاية السعيدة في حكاية عربية حتى الأعماق اسمها: فلسطين الجميلة.
بقلم/ نعمان فيصل