نحو استراتيجية فلسطينية جديدة

بقلم: عماد شقور

منذ بدء تعرض فلسطين للغزوة الصهيونية، مع نهايات القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وحتى الآن، اعتمد الشعب الفلسطيني، في الحقب الاربع التي مرت بها القضية الفلسطينية، اربع عقائد سياسية:

ـ عقيدة اعتبار قضية فلسطين "قضية إسلامية عربية"، على مدى ما تبقى من ايام الحكم العثماني، ولغاية ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى قيام جامعة الدول العربية، وقيام "دولة اسرائيل". واوصلتنا هذه العقيدة السياسية، (بحسن نيّة طبعا)، إلى "النكبة" و"اللاجئين"، والى غياب اسم "فلسطين" عن الخارطة السياسية والجغرافية للعالم.
ـ عقيدة اعتبار قضية فلسطين "قضية عربية اسلامية"، منذ العام 1948، ولغاية حرب حزيران/يونيو 1967. واوصلتنا هذه العقيدة السياسية، (بحسن نيّة هي الاخرى ايضا)، إلى اضافة "النكسة" إلى النكبة، واضافة "النازحين" إلى اللاجئين، والى انشغال العرب بـ "ازالة آثار العدوان".
ـ عقيدة اعتبار قضية فلسطين "قضية وطنية"، ولكنها "فلسطينية الوجه، عربية العمق، عالمية الامتداد والجذور"، وعنوان تلك العقيدة "الكفاح المسلّح"، واستمرت تلك المرحلة 26 عاما، من العام 1967 حتى العام 1993. واوصلتنا هذه العقيدة إلى اعادة الاعتبار للشعب الفلسطيني، واعادة الاعتراف بوجوده وحقوقه الوطنية السياسية، (حق تقرير المصير)، وحقوقه الوطنية الجغرافية بدءاً من "غزة اريحا اولا" حسب اتفاقية اوسلو.
ـ استمرار اعتماد عقيدة اعتبار قضية فلسطين "قضية وطنية"، ولكن بتغييرين جذريين: تغيير العنوان من "كفاح مُسلّح"، إلى "مفاوضات"، وتغيير المضمون من "ثورة" إلى بدء "بناء الدولة الفلسطينية"، واستمرت هذه المرحلة 23 عاما، من العام 1993 ولغاية الآن. واوصلتنا هذه العقيدة، بعنوانها الجديد، إلى ما نحن فيه اليوم من انقسام غير مسبوق، وحيث تحولت الضفة الغربية إلى مناطق مستباحة، تم (ويتم) خلالها اجتياح العاصمة الفلسطينية المؤقتة، رام الله، وتم حصار الرئيس والزعيم الفلسطيني الخالد ياسر عرفات، وصولا إلى اغتياله بالسّم، كما تشير الكثير من الادلة والتحقيقات؛ وتحول قطاع غزة، من امكانية ان يكون بوابة فلسطين على البحر والعالم، إلى سجن كبير "محرَّر".
على الجهة الاخرى من جبهة الصراع، تعددت وتغيرت العقيدة السياسية الصهيونية، وفق تعدد وتغير اشكال تجليات الحركة الصهيونية: بدءاً من الدعوة لتهجير يهود اوروبا الشرقية اساسا، (بتمويل من يهود اوروبا الغربية)؛ ثم الدعوة والعمل على تهجير يهود اوروبا الشرقية والغربية، بعد ذلك، إلى فلسطين، ومحاولات الاستيطان فيها "الى جانب اصحابها الفلسطينيين"، (مع بعض ادبيات تتحدث عن "ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض")، ومحاولات استملاك اراض زراعية وغير زراعية في فلسطين؛ ثم الدعوة الصريحة لاقامة "بيت قومي للشعب اليهودي في فلسطين "، حسب نص "وعد بلفور" مع انتهاء الحرب العالمية الاولى؛ ثم قرار التقسيم عام 1947، وما تلاه من اعلان "اقامة دولة اسرائيل"، حيث بدأ الدور الاوروبي بالتلاشي، بعد هذا "الانجاز"، لصالح الدور الأمريكي لغاية ايامنا هذه، حتى لَيصِحُ القول بكثير من الدقِّة، ان اوروبا،(الشرقية والغربية) الاستعمارية، اقامت للحركة الصهيونية "دولة اسرائيل"، على حساب الشعب الفلسطيني، وورثت الامبريالية الأمريكية دور اوروبا الاستعمارية، فاقامت هذه لدولة اسرائيل "امبراطورية اسرائيل"، على حساب ما تبقى من وطن الشعب الفلسطيني، وعلى حساب اراض من جميع "دول الطوق" العربية: سيناء من مصر، ( ثم اللانسحاب بشروط وفق كامب ديفيد)، ومنطقة جسر بنات يعقوب على نهر الاردن من المملكة الاردنية، (ثم عبر تسويات غير واضحة تماما، تضمنتها اتفاقية وادي عربة)، وهضبة الجولان من سوريا، وكل جنوب لبنان بداية، ثم "الاكتفاء" بمزارع شبعا اللبنانية حاليا.
في ضوء التعمق في فهم معاني وابعاد هذه التطورات جميعا، لاستقراء ما يمكن ان تكون عليه الاوضاع مستقبلا، نصل إلى السؤال الملح: هل تتطلب المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا، استمرار اعتماد العقيدة السياسية الفلسطينية الحالية، بعنوانها "المفاوضات"؟ ام ان ذلك، في ظل ما وصلنا اليه من بؤس، امر مُضِرّ، يجدر بنا التخلي عنه، باستبداله بعنوان آخر وبمضمون آخر؟
بداية نقول ان عنوان "المفاوضات"، بعد كل ما تابعه الفلسطينيون من شؤونها وشجونها، لم يعد عنوانا جامعا تلتف حوله وتدعمه غالبية كافية من الفلسطينيين. كما ان رفض "مبدأ" المفاوضات لا يحظى هو الآخر باغلبية فلسطينية مقنعة. تبقى امامنا، لذلك، امكانية واحدة يمكن لها ان تستقطب الغالبة العظمى من الفلسطينيين، هي اعتماد عنوان يجمع غالبية مؤيدي طرفي الانقسام الفلسطيني، هو "لا يمكن بلا مفاوضات، ولا يمكن بالمفاوضات وحدها".
ليس سهلا على الاطلاق وضع عنوان عقيدة سياسية يلتف حولها أي شعب. ويصبح الامر اكثر صعوبة، عندما تكون القضية معقدة، كما هي عليه القضية الفلسطينية، التي يرى كثيرون انها واحدة من اكثر قضايا العالم تعقيدا، سواء تم النظر اليها من زاوية ضحاياها او من زاوية مسببيها. ويبقى بعد ذلك ان وضع مضمون وبنود تلك العقيدة اصعب من كل ذلك بما لا يقاس. لهذا سوف اختصر ما اراه في بنود محددة قدر الامكان، مع بعض توضيحات لا بد منها:
ـ جميع الحروب والصراعات على مدى الخمسة قرون الماضية، دون استثناء، انتهت بالمفاوضات.
ـ لا ينتهي الصراع مع بدء المفاوضات. ينتهي الصراع والمفاوضات معا، وذلك عندما تصل المفاوضات إلى حل لكل القضايا. وعندما يتخلى احد طرفي الصراع عن عناصر القوة التي يمتلكها، وعن استخدامها وفق قواعد وضوابط الشرعية الدولية، يكون قد حول تلك المفاوضات إلى لقاءات عبثية، ويفقدها مبرر خوضها. فالصراع نفسه مفاوضات بادوات، والمفاوضات صراع بادوات اخرى. ويستمر الصراع كأنه ليس هناك مفاوضات، وتستمر المفاوضات كأن ليس هناك صراع، فيتكاملان تحت جناح قيادة عليا تضبط العلاقة بين المسارَين.
ـ لا يجوز خدمة الحاضر بما يلحق الضرر بالمستقبل. فتجنيد الاطفال والفتية في العمل النضالي الشريف والمقدس، هو تدمير لمستوى التعليم، وتدمير اكيد لمستقبل الشعب الفلسطيني.
ـ لا يجوز ان تبقى معالجة الوضع المالي والاقتصادي الفلسطيني على ما هي عليه: فواجب السلطة الفلسطينية وحدها ان تتحمل مسؤولية قضية موازناتها ورواتب موظفيها وما شابه ذلك، اما منظمة التحرير الفلسطينية فواجبها تشكيل اجهزة وهيئات ومؤسسات تعمل على بناء اقتصاد فلسطيني مستقبلي متين، يضمن للشعب الفلسطيني اقامة دولة متقدمة لا دولة فاشلة او دولة عالَم ثالث تصدِّر لاسرائيل عمالا وخادمات. ولكي اُّثبت ان ذلك ممكن، اعرض هنا عنوان ومقدِّمة ريبورتاج صحافي نشره الملحق الاقتصادي لجريدة هآرتس الاسرائيلية يوم 6.6. 2010. يقول العنوان والمقدِّمة: "اذا كان الامر هو موضوع الهاي تك في اسرائيل، فإن العرب (في اسرائيل)غير مدعوين. من بين 150 الف اسرائيلي يعملون في حقل الهاي تك هناك 460 عربيا (فلسطينيا) فقط. لو يتم ادماجهم في هذا الحقل فان من الممكن ان يُنتج ذلك 40 مليار شيكل (اكثر من 11 مليار دولار) سنويا". (وبالمناسبة: اصبح العاملون في اسرائيل في هذا الحقل الآن حوالي 180 بينهم 6000 من الفلسطينيين في اسرائيل). ولو اعتبرنا ان عدد الفلسطينيين في مناطق السلطة الوطنية، يساوي ضعفين ونصف عدد الفلسطينيين في اسرائيل، لكانت النتيجة اننا نتحدث عن دخل يزيد عن 25 مليار دولار سنويا. بلوغ ذلك لا يحتاج إلى التركيز اكثر من سبعة اعوام من التعليم الجدي، وفي اقصى الحالات اثني عشر عاما من التعليم بمستوى راقٍ وعصري.
ـ اعداد مثل ما نحن بصدده، يستلزم تأسيس مراكز دراسات متخصصة، وعقد ندوات ومؤتمرات وجلسات عصف فكري.

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور