منذ تأسيسها حتى اليوم و حركة فتح تخوض معارك وتمر بمنعطفات وتواجه تحديات ، وفي كل الحالات كانت تخرج بأقل الخسائر وتحافظ على وجودها واستمرارها وتؤكد أهليتها لقيادة المشروع الوطني ، إلا أن الظروف والتحولات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية الأخيرة مغايرة لما كان عليه الوضع سابقا ، الأمر الذي يدفعنا للتحذير من أن الحركة تواجه اليوم منعطفا مصيريا بل وجوديا غير مسبوق يهدد وجودها كرائدة للوطنية الفلسطينية والعمود الفقري لمنظمة التحرير .
يبدو أن كثيرين في تنظيم حركة فتح غير مدركين لأهمية وخطورة المتغيرات والأحداث الاستراتيجية التي تجري عندنا وفي محيطنا وفي العالم : فشل خيار السلام وتدمير وإضعاف فرص قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في غزة والضفة ، تآكل منظمة التحرير ومؤسساتها وتصرف بعض مكوناتها الحزبية بنهج معادي لحركة فتح وللرئيس ولسياسة المنظمة نفسها ، تراجع مشروع الإسلام السياسي مما يترك فراغا ينتظر من يملأه ، تجزر الانقسام وتكريسه ، تزايد تأييد الرأي العام العالمي لعدالة قضيتنا ، عبث أكثر من دولة عربية وإسلامية بالساحة الفلسطينية وخصوصا في قطاع غزة ، مراجعات حركة حماس وإمكانية التقارب بينها وبين مصر والمعسكر السني مما قد يؤدي للتعامل معها كسلطة وحكومة أمر واقع في قطاع غزة ، استمرار حالة الغضب الشعبي ، و الهبة الشعبية والتردد في رفدها وتطويرها الخ .
هذه المستجدات والتغيرات ، الإيجابي منها والسلبي ، تشكل منعطفا ولحظة تاريخية إن لم تدركها وتستوعبها حركة فتح وتضع سياسات واستراتيجيات لمواجهتها فستتجاوزها الاحداث وستفقد ريادتها للمشروع الوطني ، وآنذاك لن ينفعها القول بأنها عنوان المشروع الوطني ولا أنها الرصاصة الاولى ، وربما تفقد احتكارها للوطنية ، فهذه الاخيرة لن تستمر حكرا على تنظيم حركة فتح ، خصوصا إن دخلت حركة حماس على خط الوطنية والدولة بتشجيع من دول وقوى عربية وازنة ، ومتحالفة مع قوى وفصائل وطنية حتى من داخل منظمة التحرير ، بل من داخل حركة فتح نفسها .
إن كانت عظمة حركة فتح تكمن في فكرتها الوطنية الجامعة وتاريخها المجيد حيث استنهضت الهوية الوطنية وفرضت القضية الفلسطينية كقضية سياسية لشعب يناضل من اجل الحرية والاستقلال ، فإن مشكلتها اليوم تكمن في مراوحتها عند احتكارها للفكرة الوطنية دون تجديدها أو تطويرها وتحكمها بالنظام السياسي من خلال رئاستها للمنظمة والسلطة ، كما تكمن في زمرة متنفذة ومتحكمة , هذه الأخيرة ليست نخبة بمعنى المجموعة المتماسكة التي تدافع عن مصلحة حركة فتح أو المصلحة الوطنية ، بل مجموعات وأفراد أغلبهم يعملون على الحفاظ على مصالحهم ومواقعهم أو مرتبطين بجهات غير فلسطينية ويخدمون أجندتها .
مع كامل الاحترام والتقدير لقيادات فتحاوية ما زالت حريصة على الحركة وعلى القضية الوطنية وتناضل بصمت إلا أن هؤلاء اقلية اليوم . كثيرون من أعضاء اللجنة المركزية همهم الأول أن يضمنوا استمرارهم في موقعهم أو التخطيط والتآمر للوصول لمنصب الرئاسة أو عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، ومن يتواجد كعضو مجلس ثوري كل همه أن ينتقل للجنة المركزية أو يحافظ على منصبه الراهن ، ومن هو خارج إطار هاتين المؤسستين يعمل لأن يدخلهما موظفا موقعه وما بيده من سلطات ، سواء مؤسسة أهلية أو أمنية أو رياضية أو إدارة جامعة أو عضوية هيئة قيادية للتنظيم ، أو متسلحا بانتهازيته ونفاقه ، وفي سعي الجميع لذلك يضربون بعُرض الحائط المصلحة الوطنية و حتى مصلحة حركة فتح ، واستمرارهم في مواقعهم يعني إعادة انتاج الفشل .
لقد بات واضحا أن جزءا كبيرا من الخلل في تنظيم حركة فتح في كل أماكن الوطن والشتات لا يعود فقط لمؤامرة إسرائيلية أو حمساوية لتدمير حركة فتح رمز الوطنية الفلسطينية ، بل لترهل وفساد وغياب روح الإبداع عند الهيئات القيادية في حركة فتح ، وصراع مكوناتها على المناصب والمصالح من منطلق أن القضية الوطنية في نظرهم وصلت لطريق مسدود (ومفيش فايده) والشاطر من يستفيد أكثر في هذه المرحلة .
كل ما يجري من أمور داخل تنظيم حركة : مشكلة المعلمين ، قضية النائب ابو بكر ، فشل استنهاض تنظيم فتح في قطاع غزة وتكرار مهزلة تقديم استقالة الهيئة القيادية ثم إعادة تشكيلها من نفس الشخصيات ، تراجع التأييد للسلطة والحكومة ، الخلافات بين بعض قيادات حركة فتح والحكومة ، القطيعة الفكرية بين الجيل المؤسِس للحركة وفكر ومنطلقات الحركة من جانب وجيل الشباب من جانب آخر ، الحديث عن وجود فساد في بعض مؤسسات السلطة والمؤسسات التي تديرها حركة فتح ، الانتقادات التي توجه للسلك الدبلوماسي سواء من حيث الأداء أو طريقة التوظيف والتعيين ، تسلل اشخاص من خارج فتح ومن خارج المشروع الوطني لمراكز حساسة في مؤسسة الرئاسة ... كلها أمور يتحمل المسؤولية عنها تنظيم حركة فتح حتى وإن كان بعض ممارسي هذه التجاوزات ليسوا فتحاويين ، كما أنها ذات صلة بحمى الإعداد للمؤتمر السابع للحركة وبمعركة خلافة الرئيس أبو مازن وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني لمرحلة ما بعد الرئيس وما بعد فشل خيار حل الدولتين .
وفي هذا السياق فإن التحركات داخل تنظيم فتح حول المؤتمر السابع ووراثة الرئيس أبو مازن تفتقر للأخلاقية وتجري في الخفاء بين شخصيات فتحاوية وغير فتحاوية كثير منهم كانوا وما زالوا من رموز الفشل والفساد ولا يتوفر أي منهم على مواصفات ومتطلبات قيادة الشعب الفلسطيني ، مما يدق ناقوس الخطر حول واقع ومستقبل حركة فتح والسلطة والمشروع الوطني ما بعد الرئيس أبو مازن .
كل قيادي – وما أكثر القادة في تنظيم حركة فتح - يحاول أن يبرئ ذاته من المسؤولية والظهور بمظهر الصادق الأمين والوطني المخلص الغيور على الوطن وعلى حركة فتح مُحَمِلا جهات أخرى فتحاوية وغير فتحاوية المسؤولية عن تردي الاوضاع التنظيمية والوضع العام ، وكأنه يريد تبليغ رسالة يقول من خلالها : إنني لم اخطئ وبالتالي من حقي البقاء في موقعي والمشاركة في قيادة المرحلة المقبلة ! .
ما يثير القلق ، إن عدم عقد المؤتمر السابع وبالتالي بقاء الأمور على حالها سيكون مشكلة كبيرة لأن معناه مزيد من التردي والتفكك ، وفي نفس الوقت فإن الطريقة المتبعة للتهيئة للمؤتمر لا تبشر بأننا سنكون أمام مؤتمر تمثيلي حقيقي قادر على استنهاض الحركة ، حيث نفس النافذين في التنظيم ومن كان وراء تردي اوضاعه هم الذين يتحكمون في آلية الإعداد للمؤتمر ، مما يعني إعادة انتاج الفشل .
وأخيرا ، وبالرغم من هذه المقاربة التي سيعتبرها البعض تشاؤمية وقد يعتبرها آخرون متجنية على تنظيم فتح ، نؤكد على أن حركة فتح تتحمل القدر الأكبر من المسؤولية الوطنية عن كل ما يجري ، وما يزيد من ثِقل المسؤولية أن قطاعا كبيرا من الشعب ما يزال يراهن عليها وليس على غيرها . وحتى تتجنب حركة فتح ما هو أسوء ، وبغض النظر إن تم عقد المؤتمر السابع أو لم يُعقد ، على الحركة الاهتمام بدائرة التعبئة والتنظيم والعمل على الاستقلالية المالية للحركة وعدم ارتهانها بمالية السلطة والجهات المانحة .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش