الشباب الفلسطيني والامن الفكري

بقلم: احمد إبراهيم حماد

لقد سعدنا كثيراً برؤية شابات وشباب فلسطين في اكثر من مناسبة وطنية , و تعبيرهم الصادق لحبهم وانتمائهم وولائهم للوطن . كما تابعنا بكثير من التقدير المساهمات التربوية للمعلمين والطلاب وما حملته من مضامين وطنية أصيلة, أوصلت لنا طبيعة المساعي التي تبذلها مؤسساتنا التربوية في تشكيل ثقافة الانتماء الوطني، ومساعدة أجيالنا على ترجمة الشعور بحب الوطن إلى سلوك مسئول ووعي مُدرك لواجباتهم الوطنية، والامثلة على ذلك كثيرة منها فوز المعلمة الفلسطينية حنان الحروب بجائزة "أفضل معلم في العالم" لعام ألفين وستة عشر، وذلك في المنافسة التي نظمتها مؤسسة "فاركي فاونديشن" البريطانية. وهي جهود لا بد لها أن تتواصل عبر الخطط والبرامج التربوية المتخصصة بتركيزها على التعريف بموروثنا التراثي العريق النابع من محيطنا العربي بحضارته الغنية, والتأكيد على مبادئ ديننا الحنيف الداعية للتسامح والاعتدال, وتنمية الثقافة الوطنية, وتأصيل مفاهيم المواطنة الايجابية فكراً وتطبيقاً.

ومما دعانى الى كتابة هذا المقال  مقطع فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي حديثاً، لما يسمى بالملتقى الدعوي "سفينة النجاة الدعوية في غزة"، ردود فعل حول الهدف من هذا النشاط لاستتابة أطفال في عمر الزهور، بينما بدا المتحدثون في الفيديو من الشيوخ كمن يقدمون "صكوك الغفران" للأطفال بعد توبتهم بين يدي الدعاة في حالة أشبه بالدراما، لترهيب الأطفال، وإضفاء صفة القداسة على الشيوخ و يظهر قيام مجموعة من الشيوخ وهم يدعون الطلبة للتوبة، فيما يبدأ بعض الطلاب بالبكاء والسجود على الأرض..

 ونود هنا التشديد على حجم وجسامة المسئولية التي تتولاها الكوادر التعليمية والتربوية في حمل رسالة العلم ونقلها بأمانة وطنية خالصة, لتحصين فكر الأبناء من التطرف والتحيّز الفكري والايدلوجى , وتعميق حسهم بالمسئولية الاجتماعية, وتمكينَهم من حفظ واحترام حقوق وطنهم عليهم, مقدرين لوزارة التربية والتعليم العالى وفرق عملها حُسن تطبيقهم للخطط التربوية من أجل تطوير الأنظمة والمناهج التربوية، لتكون خير رافد للإنتاج والنشاط الفكري والمعرفي على المستوى الوطني وبما ينسجم مع رؤيتنا الوطنية لدور الوزارة  ومكانتها .

يشكل الشباب نصف المجتمع الفلسطيني وهم من أكثر فئات المجتمع حركة ونشاطاً ,ومصدراً من مصادر التغيير الاجتماعى ، كما تتصف هذه الفئة بالإنتاج والعطاء والإبداع في كافة المجالات، فهم المؤهلون للنهوض بمسئوليات بناء المجتمع 0

عندما نتحدث عن الشباب إنما نتحدث عن ذخيرة الأمة وعدة الحاضر وأمل المستقبل ،وذلك أن فترة الشباب هي أخصب فترات العمر و أحفلها بالعمل والإنتاج ،إنها مرحلة التحصيل العلمي والاقتصادي ،وهي المرحلة التي تعتمد عليها الأمم في تكوين الجيوش وخوض المعارك وبناء الأوطان .. لذلك فإن الواجب الديني والقومي والوطني يفرض علينا رعاية شبابنا وحمايته من الانحراف.

        وتعد القيم هي الضابط والمعيار الأساسي للسلوك الفردي والاجتماعي، ولا يمكن تحديد الأهداف التربوية لتكون معبرة عن طبيعة الإنسان وطبيعة المجتمع إلا عن طريق القيم, الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى المسئولية المشتركة في تعميق القيم وتنميتها لدى الشباب، عن طريق التخطيط والتنسيق بين كافة مؤسسات المجتمع، لكى لا تكرر مؤسسة أو هيئة ما تفعله المؤسسات الأخرى0

كما ترتب قيم الفرد أو المجتمع تبعاً لأفضليتها ومستوى أهميتها وتقديرها، بحيث تسبق القيمة الأعظم أهمية, ثم التي تليها أي ترتيب هذه القيم لدي الشباب طبقا لأولويتها لديهم 0وبالتالى تأتى الثقافة الخاصة بالشباب في الوقت الحالي كاستجابة لمتغيرات محلية وعالمية, وذلك برفض القيم السائدة عبر أشكال وصور بديلة للتعبير الثقافي، وهو ما يمثل استجابة لمطالب من ينتمى إليها، فالخروج من ثقافة والركون لأخرى يؤدى بالشباب للثورة على المعايير والقيم السائدة ومحاولة للاستقلال عن سلطة ونمط حياة المجتمع، لخلق نوع خاص من اللغة والقيم والتصرفات والسلوكيات وهو ما يطلق عليه الصراع الثقافي.

شبابنا الفلسطيني الآن، أسير لحالتين خطيرتين جداً، الأولى تكمن في حالة الاستقطاب الفكري الحاد الذي تُهيمن عليها النزعة العصبية والإقصائية، بينما على النقيض تماماً تتمثل الحالة الأخرى بتنامي حالة التهميش ، والتي أفرزت شريحة شبابية مشوهة وفاقدة لكل مظاهر الوعي والإدراك والرؤية. شبابنا الآن، بين مطرقة التشدد وسندان التهميش!

ما يتعرض له الشباب في مجتمعنا الفلسطيني اليوم، بل ومنذ سنوات طويلة، من تهميش وإقصاء وإبعاد، من قبل النظام والقوى السياسية الفلسطينية ، أسقطه في فخاخ التشدد والتطرف وجعله وقوداً رخيصاً لساحات العنف والقتال وورطه في معارك خاسرة، تلك الفخاخ والساحات والمعارك التي حصدت ارواح مئات  من شبابنا الفلسطيني في دول عربية اخرى .

وحتى لا يستمر النزف من طاقاتنا وثرواتنا الشبابية، آن الوقت لترشيد حالة الاستقطابات واسقاطاتها الفكرية البغيضة التي تُمارس في بعض مؤسساتنا التربوية والمنابر الاعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، وذلك عن طريق إيقاظ حالة الحس والانتماء الوطني وزيادة درجات الوعي والتسامح الاجتماعي.

كذلك، مساعدتهم على الخروج من مظاهر الاقصاء والتهميش وذلك بتسهيل انخراطهم في مصادر الإبداع والإلهام والانفتاح، كممارسة الهوايات والفنون كالغناء والموسيقى والرسم والنحت والتمثيل والسينما والمسرح  .

والعمل على إصلاح العديد من جوانب نظام التعليم، سيُسهم بلا شك في تكوين الشخصية المتزنة والمتكاملة والطبيعية لأطفالنا وشبابنا، من خلال وجود برامج وآليات واستراتيجيات ورؤى حقيقية وواقعية لإحداث نهضة تعليمية جادة.

كذلك، إعادة القيمة الملهمة للرياضة، باعتبارها الساحة الأكثر جذباً وعشقاً للشباب، وضرورة تنقيتها من مظاهر العنف والتعصب والبذاءة، والإلحاح على تغليب الانتماء للوطن وليس للكيانات والرموز والاعتبارات الأخرى.

 ان الدين بثوابته ومبادئه وقيمه لا يقبل التشكيك أو التقليل أو حتى المزايدة، ولا يصح من عاقل أن ينال منه، أو الإساءة إليه؛ فهو دين الله الذي ارتضاه لعباده إيماناً واحتساباً، وطمعاً في رضوانه وجنته، ولكن التديّن كسلوك بشري لتطبيق تعاليم الدين هي التي تختلف من شخص إلى آخر؛ بحسب العقول والعواطف والمرجعيات الدينية والثقافية لكل زمان ومكان، وهذا الفارق بين الدين والتديّن.

لا شك أن مسيرة التدين المنغرسة في مجتمعنا الفلسطيني على الفطرة كان لها جوانب إيجابية كثيرة، وتحديداً ما له علاقة بمنظومة القيم والأخلاق والتكافل الاجتماعي واساليب التعامل داخل المجتمع، والتحصين الداخلي للفرد من الفتن، ولكن في الجانب السلبي أظهرت مسيرة التديّن الجديدة في المجتمع الفلسطيني خاصة والمجتمعات العربية على وجه العموم خطاباً أممياً وليس وطنياً، وانتهت بنا إلى تقليديين ومتطرفين ومنقسمين بين تيارات وتصنيفات فكرية!.

 ان واقعية التديّن في مجتمعنا تستلزم مكافحة الثالوث الأسود، الأول: التقليدية -بمعنى التقليد-، حيث يكون التدين عبارة عن طقوس، مثل أن يكون ثوبه قصيرا، ومن دون عقال، وذو لحية، وعنده مسواك، أمّا أخلاقياته وسلوكياته وعلاقاته مع ربه فالمفترض أن تُبنى على المسامحة وعلاقاته مع العباد على المشاحاة، والضلع الثاني هو التطرف والغلو، حيث نجد لدينا تكريس لغة أن تكون متديناً بمعنى أن تكون متشدداً، وكلما حرّمت أكثر أصبحت في المجتمع متديناً أكثر، والضلع الثالث هو الحزبية، وتعني الحزبية التنظيمية الحركية، وقد تكون حزبية قبلية، أو إقليمية، أو طائفية، أو مذهبية.

ان الخطاب الديني "المتعصب" في المجتمع الفلسطيني ، حيث نجد انصار هذا التيار كلما أصبح الشخص فيه متشدداً أكثر ومغالياً؛ فإنه يصبح في النظرة الاجتماعية متديناً أكثر، والآخرون دينهم "نص، ونص"، مُشدداً على أهمية إعادة النظر في الموضوع، وأن نمارس النقد على أنفسنا، مبيناً أن هناك مثالا آخر عن النفاق؛ فالمتابع للخطاب الديني من بعض الرموز الدينية لدينا؛ سواءٌ في تغريداتهم ومقالاتهم وخطب الجمعة ومحاضراتهم ودروسهم كلها عن النفاق؟ حتى أعطوا المتلقين من المستمعين أو المشاهدين ومن المصلين في المساجد انطباعاً أن كل الناس منافقون إلاّ المتحدث مؤمن كامل الإيمان، متأسفاً على أن المختلف معنا نُصنفه بأنه منافق وووو...

ان البعض من المتديّنين لا يكترث بالشأن الوطني قدر اهتمامه بقضايا الأمة كافة، وهذا منشأه التربية التي تلقاها، أو المحاضن التربوية سواء المدرسة أو الجامعة أو المسجد أو خارجه، ويبرز في تصريحات بعض المتدينين أن هناك خروجاً عن الأدب الشرعي، كما تبرز العاطفة الجامحة في البرامج الحوارية التلفزيونية المباشرة في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي واتباع المسلك الاتهامي المتوتر نحو تصعيد المواقف والحشد النفسي، وتكثيف الجانب المظلم سواء الموجه نحو اشخاص او وسيلة إعلامية أو مؤسسات اجتماعية.

يبدو أن الوقت قد حان، لعمل مراجعات وإصلاحات شاملة لطرق وأساليب واستراتيجيات التعامل مع الشباب، لأن ظروف وطبيعة المرحلة الصعبة التي تمر بها منطقتنا العربية من انقسامات مجتمعية وسياسية ، تقتضي إعادة النظر في الكثير من أفكارنا وقناعاتنا. المطلوب ترسيخ وتعميق مبدأ الولاء الوطني في أذهان الشباب وحثهم على القيام بدورهم الاجتماعي المأمول.

كما ان استغلال اوقات الفراغ في الانشطة النافعة المرتبطة بميول الفرد واهتماماته من خلال الاسرة والمدرسة ووسائل الاعلام والاندية بأنواعها ينمي لدى الفرد المواهب والهوايات ليحقق ذاتة من خلالها كما توجهه الى تقدير قيمة الوقت واهمية استغلاله وهذا بدوره يقلل من الفرص التي قد تدفع الى الانحراف كما تجنبه السلبية والكسل وعدم المبالاه.

علموا أولادكم حب الحياة ، ليست مجرد نصيحة أو وصفة، ولكنها بحاجة لأن تُفعّل وتُطبق كرؤية ذكية لتمكين الشباب بما يحملونه من طاقات وقدرات وطموحات، كشركاء حقيقيين في هذا الوطن.

د. أحمد ابراهيم حماد