تعتبر سنوات الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس من أشد السنوات قسوة على النفس والمصير؛ إذ أوقد هذا الانقسام نار الفتنة في البلاد، وجمع لها وقودها وحطبها، حتى امتد لهيبها، وعم جميع الوطن الذي تصدع بناؤه إلى كيانين وحكومتين وسلطتين فلسطينيتين في مرحلة من أدق مراحل الحركة الوطنية، وكان السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، ويبحث عن إجابة شافية: هل يمكن أن تُختزل مائة عام من تاريخ فلسطين لتصبح مجرد صفحة منسية؟ ولأن ظروفها أصبحت أقوى منها؟ ولأن أعواد الانقسام المشتعلة أحرقت ثيابها في أحلك أزمانها؟.
ومن الطبيعي أن يفكر الفلسطينيون في مصير بلادهم وسط هذه الظروف المتشابكة، وتعالت الصيحات خلال سني الانقسام، ودارت المناقشات، وعقدت الجلسات بين طرفي الانقسام للاجتماع على كلمة سواء، لكن على أرض الواقع ظلت المصالحة، الغائب الأكبر، حبراً على ورق تراوح مكانها، وتنتظر مَن يزيح الغبار عنها، فقضت على كل دعوة للاطمئنان لتنفيذ بنودها، ولاقت الإهمال من كل مَن بيده الأمر فيها، يطرقون أبوابها من دون جدوى، وأصبح كلا الجانبين يعلق إخفاقه على إخفاق الآخر، تماماً كالخلاف الذي تقع فيه جماعة من الجماعات حين تفشل في أمر، فيبرر كل فريق فشله بفشل غيره، ما يدعو إلى الاسترابة في حسن نية الطرفين، وكانت نظرتهما إلى تلك المصالحة على قاعدة المنافع والمصالح، وفقاً لما تحققه لهذا الحزب أو تلك الحركة على الأرض، فلم تكن صادرة من أعماق المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، بما يحفظ كرامة الوطن وحقوقه، وغدا الأمر عند كلا الجانبين اللذين بيدهما صولجان السلطة وكأنهما يسيران في طريق مظلم مليء بالعثرات والعقبات. واستمر الانقسام على ذلك وسط أنواء هذا الدور وتياراته الجارفة رغم مضض الانتظار ومرارة الكبت. ولسان حال الناس يقول: إن المصالحة ليست كلمة تردد في الفضاء بغير معنى تترجمه إرادة حقيقية وإجراءات ملموسة على الأرض.
واستشعاراً بعظم المسؤولية الوطنية؛ مسؤولية الضمير والوجدان ومسؤولية المستقبل، فعلى طرفي الانقسام (فتح وحماس)، ومعهما باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي على حد سواء، الشروع، باعتبارهم أمناء على تحقيق آمال الناس وتطلعاتهم وأهدافهم، بإجراء قراءة أركيولوجية، ومراجعة فكرية، وتقويم بنّاء، تشمل، فيما تشمل، الشعارات المرفوعة والأهداف المرسومة والوسائل المطروحة والمواثيق المنشودة، وبما يتلاءم مع متطلبات المرحلة، ومعرفة أسباب ما آلت إليه الحالة الفلسطينية من تفتت وترهل وضعف، والاطلاع على العلل والأمراض التي أصابت الفلسطينيين، ودفعتهم إلى أحضان الركود والتأخر؛ فالقضية الفلسطينية هي الوحيدة في العالم التي لم تنل استقلالها وحريتها حتى يومنا هذا.
وهذا يحتم علينا جميعاً قراءة المرحلة السابقة بصورة تفسيرية لمعرفة حقيقة وضعنا، وما حققناه، وأين نقف نحن؟ وتحديد دور القوى المختلفة في العمل الوطني والاجتماعي، وأثره على الحياة بكل جوانبها، ولتلافي قصورنا وعوامل ضعفنا، ولاستشراف المستقبل؛ فالتقويم هو الوسيلة المثلى القادرة على تحقيق استشراف المستقبل واستخلاص العبر، فقد آن الأوان لنعدل عقارب ساعتنا في اتجاه النقد الذاتي البناء، رغم وعينا بما يثيره هذا النقد من اللبس والالتباس، وبعيداً عن نظرية المؤامرة وخطاب الضحية دون مواربة أو تورية، وبنظرة محيطة شاملة من أجل قيادة الحركة الوطنية إلى بر الأمان والاستقلال الكامل، ووصولاً إلى مرجعية وطنية شاملة وإستراتيجية، تنسجم من روح التغيير الأيديولوجي، علينا أن نقدم أنفع الوسائل لتحقيق ذلك على أسس راسخة من المشاركة الشعبية الواسعة في صنع القرار.
وتتلازم عملية التقويم والقراءة الأركيولوجية في السير نحو حركة إصلاح شاملة، وغرس بذورها بإمعان، ومعرفة الأمراض التي انتشرت سمومها في المجتمع الفلسطيني، وتقديم أنفع الوسائل في معالجتها، والوصول إلى الهدف السليم في سلامة واطمئنان.
فالإصلاح الذي يستند إلى أسس عميقة هو السبيل الأمثل أمام القيادة الفلسطينية، إذ يستمد الفلسطينيون من ينابيعه ما يساعدهم على مواجهة الأخطار التي تحدق بوطنهم والدفاع عن قضيتهم العادلة، ولإيقاظ شعور مواطنيهم، وحثهم على رفع شأن بلادهم إلى مدارج الرقي التي يسود فيها القانون، ورأب الصدع في النسيج الاجتماعي جراء الانقسام، وذلك بأن تتخذ القيادة موقف الطبيب أمام المريض، يفحص داءه، ويتعرف على أسبابه، ثم يصف العلاج، فلا بدَّ من التغيير الجذري والكلي، وليس هذا التغيير يتم باستبدال الطرابيش على نفس الرؤوس، بل باستبدال الرؤوس بالكامل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب على قاعدة (لا يصح إلا الصحيح).
إن الشعب العربي الفلسطيني الذي ظل يرفع راية الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، منذ ما يناهز القرن، يقف صامداً في إباء، ويحافظ على حيويته ونضاله في سبيل حريته، وينشد الحرية والمساواة والاستقلال، ويتطلع إلى الارتقاء في شتى مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويدرك أن النضال الفلسطيني يمر في ساعة من أخطر ساعات المرحلة في مواجهة الخطر الإسرائيلي الذي بلغ درجة عالية في الغدر والمراوغة في استغلال الوقيعة بين حركتي فتح وحماس، ودفع أبناء الشعب الفلسطيني إلى مشاكل داخلية تصرف أنظارهم عن قضيتهم المركزية وعدوهم الحقيقي.
إن قيادتنا مدعوة إلى تقويم وإصلاح ورقابة ووحدة تليق بحجم التضحيات الباهظة التي قدمها شعبنا في تلك السبيل، وعليهم أن يدركوا أن مصير بلادهم رهن بإرادتهم وإرادة شعبهم.
بقلم/ نعمان فيصل