ماذا عن الجسر؟ وماذا عن اسرائيل؟

بقلم: عماد شقور

لم تكن جريدة "معاريف" الاسرائيلية بعيدة عن الحقيقة، عندما عنونت تعليقها على خبر اعلان الملك السعودي، في القاهرة، الاتفاق على تشييد "جسر الملك سلمان"، فوق البحر الاحمر، والذي سيربط بين مصر والسعودية، بـ"شرق اوسط جديد".

يمكن النظر إلى موضوع بناء هذا الجسر، من زوايا عديدة للغاية. ومن كل زاوية يتم النظر منها، تظهر الاهمية البالغة لهذا الحدث الفريد: بالمعنى الآني الفوري، وبمعنى ما يحمله من اهمية في المستقبل القريب والمتوسط، كما في المستقبل البعيد ايضا. وهو، لهذا السبب تحديدا، يحتل موقعه في تاريخ المنطقة كحدث استراتيجي بامتياز، مثله مثل حفر قناة السويس، التي وصلت البحر الابيض المتوسط بالبحر الاحمر؛ ومثل حفر قناة بنما، التي وصلت المحيط الهادي بالمحيط الاطلسي؛ ومثل حفر نفق المانش الذي وصل الجزر البريطانية بالبر الاوروبي؛ ومثل جسر اسطنبول الاول الذي وصل اوروبا بآسيا؛ و…مثل "الجسر العائم" الذي مدّه جيش مصر فوق مياه قناة السويس، خلال ساعات، ليكون عاملا حاسما في تحطيم خط/جدار بارليف، ويبدأ عملية تحرير سيناء من الاحتلال الاسرائيلي، في تشرين الاول/اكتوبر 1973.
لكن لهذا الجسر، جسر الملك سلمان، ابعادا تفوق كثيرا ابعاد كل واحد مما عدّدْته من مشاريع وانجازات. ذلك انه تجتمع فيه ابعاد وطنية وقومية وانسانية، وابعاد اقتصادية واجتماعية وحضارية ، وكذلك ابعاد سياسية وامنية وعسكرية، لها علاقة مباشرة باحداث ايامنا، وباحداث مستقبل منطقتنا، ومصير قضايانا جميعها، واولها، واهمها، قضية فلسطين.
في محاولة الاحاطة بالاهم من بين هذه الابعاد، لا بُدّ من الاختصار، بل وربما الاختزال ايضا، لنصل إلى ما يمكن عرضه، كما يلي:
ـ البُعد الوطني لهذا الجسر، ظاهر بجلاء ووضوح، حيث انه يعني بداية ربط جغرافي بين ما يقارب مئة مليون مصري، بما لمصر من دور حضاري في العالم؛ وما يقترب من ثلاثين مليون سعودي، بما لمكة الشريفة والمدينة المنورة، ولما لكل ارض الجزيرة العربية من وزن في الوجدان العربي والاسلامي، ويجعل التواصل بين هذه الملايين اسهل بما لا يقاس، مما هو الوضع عليه في ايامنا. فملايين بشر مصر والسعودية، وملايين براميل البترول السعودية، وقناة السويس المصرية، وربط كل هذه الطاقات البشرية الهائلة، مع هذه الطاقات الاقتصادية الكبيرة، مع كل ما يضاف إلى ذلك من معاني وابعاد تأثير الاحتكاك اليومي بين الشعبين، هو اضافة نوعية مميزة، للوزن العربي في المنطقة وفي العالم ككل، بعد ان كان هذا الوزن في تناقص متواصل منذ قرون، باستثناء فترات قصيرة من نهوض، ما كان يكاد يبدأ حتى ينعكس ويندحر. إلى ذلك، فان هذا الرابط البري، يعيد وينشط الحياة بقوة لا سابق لها، إلى كل شبه جزيرة سيناء، والى كامل المنطقة الشمالية الغربية من المملكة العربية السعودية.
ـ اما البعد السياسي القومي لهذا المشروع، فيبدو جليا واضحا عندما نعرف ان السبب الاهم لانشاء اسرائيل، من بين اسباب اخرى مهمة، كان وما زال فصل التواصل الجغرافي بين شعوب ودول الامة العربية. ولئن كان الوطن الفلسطيني ليس مجرد اداة وصل، فان الجسر المزمع اقامته، يُفقد اسرائيل الكثير من قيمتها في عيون من اقاموها ورعوها، وما يزالون. فهو يعيد ربط المشرق العربي بالمغرب العربي، بواصل برّيٍ، يمكّن الانسان العربي من الانتقال والتواصل، حتى بسيارته الخاصة، من اقصى بلد عربي على شواطئ المحيط الاطلسي، إلى اقصى نقطة عربية على الخليج العربي. ويربط آسيا بافريقيا، مع كل ما يفتحه ذلك من امكانيات واحتمالات.
ـ وفيما يخص البعد الاقتصادي والاجتماعي، فان الجسر بشقيه: الطريق البري، وخط سكة الحديد، يسهم بتنشيط إكمال طرفيه: الآسيوي والافريقي، بتحويلهما إلى رأسين لشبكات مواصلات تغطيان كامل جغرافية العالم العربي، بشوارع وسكك حديدية، تسهم في احراز قفزة هائلة في تعزيز التبادل التجاري، واقامة مدن ومواقع على امتداد هذه الخطوط، وليس عند نهاياتها فقط، مع كل ما يرافق ذلك من مشاريع صناعية وزراعية وسياحية وغيرها، وما يعنيه ذلك من توفير فرص عمل لملايين من ابناء الشعوب العربية. ولا ننسى، في هذا السياق، ان مد شبكات السكك الحديدية في اوروبا وفي امريكا الشمالية، بشكل خاص، شكل واحدا من الاسباب الاهم في ما شهدته دول هاتين القارتين، من تقدم علمي وحضاري، ومن مساهمتها في الدفع نحو التعايش والتحالف والتكامل، بين الدول والشعوب التي تربطها هذه السكك الحديدية ببعضها البعض.
ـ نصل هنا إلى ما لإقامة هذا الجسر من تأثيرات بالغة الأهمية على الصعيد السياسي، حيث ان بناء شراكة استراتيجية مستقرة ودائمة، تستند إلى هذا الرابط البري المتين، بين شعبي مصر والسعودية، يمكن لها ان تشكل رافعة قوية لنقل كل عالمنا العربي من حال إلى حال، يعيد للعرب وزنهم ودورهم على الساحة الدولية، ولينعكس هذا ايجابيا على كل القضايا العربية، واولها القضية الفلسطينية، والحقوق الشرعية لشعبنا الفلسطيني. ولا يضيرنا في هذا السياق التذكير بان اطماع اسرائيل في التوسع وقضم اراض ومواقع عربية، وصلت في يوم من الايام، حد الحلم والعمل على ابتلاع جزيرتي صنافير وتيران، اللتين يشملهما ويحميهما الجسر المزمع اقامته، حين قال ديفيد بن غوريون، اثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956: "ستعود جزيرة يوطفات المسماة تيران، لتكون جزءاً من مملكة اسرائيل الثالثة" ، وهو يشير بذلك إلى زوال "المملكة" الاولى بالسبي البابلي، وزوال الثانية على يد القيصر الروماني تيطس، ويرى في الدولة التي اعلن هو قيامها "مملكة اسرائيل الثالثة".
يذكرنا هذا الجهد المصري والسعودي، لاعادة بناء شراكة وتعاون وتكامل استراتيجي متين، بين مصر والسعودية، بما كان عليه الوضع العربي عشية وخلال حرب 1973، حين تكامل الجهد العسكري المصري اساسا، مدعوما بالجهد العربي، مع القدرات الاقتصادية السعودية اساسا، مدعومة بالقدرات العربية ايضا، فوضع حدا لاطماع اسرائيل، وفرض عليها التراجع عن سياستها في حينه، والتي لخصتها معادلة موشي ديان بقوله: "شرم الشيخ بدون سلام، افضل لنا من سلام بدون شرم الشيخ". ثم كان ديان نفسه، اول المبادرين في التفاوض للانسحاب من شرم الشيخ وكل سيناء بما في ذلك طابا. وكل ذلك بفضل التعاون والتكامل بين الاهم من الطاقات البشرية العربية والطاقات الاقتصادية العربية.
يبقى بعد ذلك السؤال الاهم: هل كل هذا التطور الايجابي على الصعيد المصري السعودي اساسا، والعربي عموما، هو خير صافٍ ومضمون، لا يتربص به اي خطر، لا من خلف ولا من قدّام؟.
جوابي: في الامر خير عميم. لكن فيه، لا خطر واحد فقط، بل ثلاثة اخطار كبيرة، يمكن تجاوزها إلى بر الامان، شريطة التعامل بها بجدية كاملة، هي جديرة بها.
يتمثل الخطر الاول الموضوعي، في الموقع الجغرافي للجسر. فهو موقع في منتصف الشرخ الافريقي الآسيوي المعرض دائما لزلازل ارضية مدمرة. وتجاوز هذا الخطر، في حال حدوث هزة ارضية، يستدعي الاستعانة باحدث تقنيات العصر لتفادي المخاطر إلى ابعد حد ممكن. ولعلماء ومهندسي اليابان تحديدا، خبرات هائلة في هذا المجال، اكتسبوها بفضل معاناتهم على مر العصور من هزات ارضية وزلازل. وصحيح ان "الحاجة أُم الاختراع".
اما الخطر الثاني، فهو ان يطغى على الذهن العربي عموما، والسعودي تحديدا، ظرف سياسي آني، هو خطر الرعونة الايرانية، الآنية هي الاخرى بالتأكيد، على خلط الاوراق العربية بصورة خاطئة، وتقديم خطر فوري محتمل، هو مؤقت بالتأكيد، وذلك في حال حدوثه، على مرض سرطاني قائم، تمثله اسرائيل وسياستها واطماعها وعنصريتها.
يبقى بعد ذلك الخطر الذاتي، المتمثل في احتمال عدم التقاط القيادة الشرعية الفلسطينية لما في هذه التطورات المذهلة على ساحة المنطقة ككل، من بدء تباشير امكانيات ارغام اسرائيل على القبول والرضوخ لمبادرة السلام العربية، والتي هي بالاساس مبادرة سعودية، بدأت الظهور عام 1982 على شكل "مبادرة الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود" في مؤتمري القمة، فاس الاول، وفاس الثاني، في المغرب، ثم طورها الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، لتستقر لاحقا في القمة العربية في بيروت عام 2002، (ايام ارتكاب القيادات الفلسطينية الحماقات الكبرى؛ وارتكاب اسرائيل الاكثر حقارة بين جرائم العصر)، تحت اسمها الجديد: "مبادرة السلام العربية".

٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور
عن/ القدس العربي