يحاول الفلسطينيون إيجاد هوامش جديدة في معالجة معضلات الإغلاق الإسرائيلي السياسي، فقد طرقوا أبواب محكمة الجنايات الدولية في تقدير مبالغ فيه لمدى انزعاج إسرائيل من هذا التوجه، وساد، ولو إلى حين، ظنٌ بأن التوجه إلى محكمة الجنايات سيكون ورقة ضغط استراتيجية على إسرائيل تدفعها إلى التعقل والليونة إن لم يكن منطقيًا القول تغيير الاتجاه.
ولكثرة ما استخدمت محكمة الجنايات، ولو دعائيًا، فقد تعودت إسرائيل على الحكاية، بل أضافت التراجع الفلسطيني عنها كشرط للتفاوض تمامًا، مثلها مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن اللذين يطلب من الفلسطينيين عدم التوجه إليهما كي لا تتعقد الأمور المعقدة أصلاً، وآخر مطالبي الفلسطينيين بفرملة تحركهم نحو مجلس الأمن هم الفرنسيون، الذين يتحزم الفلسطينيون بمبادرتهم كممر ولو ضيقًا لعقد مؤتمر دولي ينتج إطارًا دوليًا لمعالجة القضية الفلسطينية، على غرار الإطار الذي عالج الملف النووي الإيراني.
وهذه الهوامش التي افتتحها الفلسطينيون ردًا على الإغلاق الإسرائيلي تبدو مجرد ورقة معنوية يضغطون بها على ما يُسمى "المجتمع الدولي"، ليس من خلال سذاجة التوقع بأن هوامش كهذه تأتي بحل، وإنما من أجل أن تظل القضية الفلسطينية على البال في زمن الانشغالات الإقليمية والدولية بالقضايا الأكثر إلحاحًا.
ورغم الحديث ذي النبرة العالية نحو المبادرة الفرنسية ومجلس الأمن والـ"لا" الصاخبة ضد المفاوضات، فإن النزعة البراغماتية التي لا يزال الرئيس محمود عباس يحتفظ ببعض منها أدّت إلى عدم إغلاق الباب تمامًا أمام المفاوضات مع إسرائيل، حيث تجري هذه المفاوضات بصورة تكاد تكون منتظمة، ولكن في غلاف أمني عنوانه استعادة صلاحيات السلطة في المنطقة "A" التي تمتعت في بدايات تطبيق أوسلو بسلطة كاملة وحرّم على الإسرائيليين دخولها ولو مرورًا، ولولا التسريبات الإسرائيلية التي لا تخفي شيئًا لما عرف أحد أن هنالك مفاوضات.
وهذا الذي يجري على صعيد التحرك الخارجي الفلسطيني والمفاوضات الأمنية مع إسرائيل، ولّد تساؤلاً يوشك أن يصبح شعبيًا لكثرة تداوله دون تقديم أي جواب من جانب السلطة التي أخذتها العزة بالإثم بحيث تواصل التنديد بالمفاوضات وتحريمها، كما لو أنها نكوص عن أبسط مقومات الوطنية الفلسطينية، أو أنها رضوخ للسياسة الإسرائيلية التي لم يتغير منها شيء، سواء كان هنالك مفاوضات أو لم يكن.
كلمة السر في الوضع الفلسطيني الإسرائيلي تكمن في واشنطن التي تعلن ليل نهار عن أنها لن تفعل شيئًا خلال هذه السنة، وفي الوقت ذاته لا تكف عن انتقاد الطرفين، الفلسطيني لعدم إدانة قيادته المباشرة لأي عمل عنيف يصدر عنه، وبالمقابل يواصلون نقدهم النمطي للاستيطان الإسرائيلي، إلا أنهم يتمتعون بفعالية حاسمة في أمر فرملة المبادرة الفرنسية مثلا، وإغلاق أبواب مجلس الأمن تحت الذريعة المألوفة.. إن مكان الحل هو طاولة المفاوضات المباشرة بين الطرفين.
أمّا الإسرائيليون الذين أُتخموا من الوجبات الفلسطينية، فقد توجهوا أخيرًا إلى الجولان كما لو أنهم في سباق مع الزمن، يسعون فيه إلى التهام أقصى ما يستطيعون من الأرض والنفوذ في صحة الربيع العربي.
إنها دوامة سياسية تغرق المنطقة بأسرها، وأول وليس آخر ضحاياها الفلسطينيون الذين لا يعرفون إلى أين يتجهون بالضبط، هل يفاوضون خارج نطاق الأمن وتحت ضغط القوة الإسرائيلية لتجري المفاوضات على منطق الغالب والمغلوب، وهنا هم الخاسرون، أم يهربون بأوراقهم إلى العالم الأوسع، حيث الحواجز الأميركية الإسرائيلية المشتركة، أقوى فعلاً وتأثيرًا من الحواجز العسكرية المقامة على كل مفاصل بلادهم، أم ينتظرون خلاصات الحرب العالمية المحتدمة في محيطهم، لعل ترتيبات إقليمية تعطيهم بعض ما يطمحون ويتمنون؟! وفي كل الحالات فإن الوقت لا يعمل في صالح أي من هذه الاحتمالات.
رهان الفلسطينيين الذين يعرفون ذلك على جلودهم، وهو الرهان الأزلي ذاته بأن يقبضوا على حقوقهم دون يأس، وأن يصوغوا معادلة تأثير أكثر جدوى من داخل مجتمعهم، مع جرأة سياسية في اقتحام المعادلات، بما في ذلك التمرد على الانقسام ونمطية العمل السياسي الذي يقوده ولا يخوضه الجيل القديم ولا مناص من مراجعة تفصيلية لإخفاق الشعار وأدواته، وتظهير طبقة سياسية جديدة تكون أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات والاستعصاءات؛ فكم تغير الزمن وتغيرت الخرائط والسياسات والكيانات، وما بقي ثابتًا هو استمرار القضية الفلسطينية بلا حل واستمرار الطبقة السياسية الفلسطينية بلا تجدد.
نبيل عمرو/الشرق الاوسط