مع القائد الفقيد عثمان أبو غربية

بقلم: محمد صالح الشنطي

لم يكن غياب الأخ القائد عثمان أبو غربية أمرا عاديا ، فقد كان له وقع الصاعقة على الجميع خصوصا ، نحن أصدقاءه – الذين رافقناه فتى و شابا في مرحلة الطلب وقضينا معه مرحلة التشكل الوجداني و الثقافي ، فثمة تفاصيل كثيرة وجميلة تسكن ذاكرتنا الوجدانية ، منذ سنين ، فقد أصبحت جزءا من وعينا وتاريخنا ، ولعل ما يمكن أن أستذكره وصله ما انقطع بيننا عام 1995 م.

فوجئت برنين الهاتف يحمل إلي صوته من بعيد كان يحدثني بثقة العارف المتيقن ممن يهاتف ،كان الصوت يتسلل إلى قلبي فيداعب أوتاره ؛ لكنني لم أستطيع تمييزه ، بعد العهد بيني وبينه حتى كدت أنسى صاحبه ، وعلى الرغم من أنني ما زلت أحتفظ له في ألبومي الخاص بصور عديدة التقطناها معا أنا وأصدقاؤنا الخلص : خليل الحوراني وأحمد البعم، و كنا أصدقاء أربعة لا نكاد نفترق إبان المرحلة المتوسطة و المرحلة الثانوية ، كنت أدرس التوجيهي وفق النظام المصري في مدرسة الحسين بن علي في الخليل عام 1963 للميلاد وكان عثمان وخليل وأحمد مازالا في الصف الثاني الثانوي.

ربطت بيننا صداقة عميقة رسّخها حنين دائم إلى الوطن ؛ إذ كنا قد تعاهدنا على أن نوقع تحت شعار( نحن فلسطين) ، و الصور التي مازالت بحوزتي تحمل في إهداءاتها المتبادلة هذا الشعار ، كان الود بيننا خالصا ؛ لا نكاد نودع بعضنا بعضا حتى نلتقي من جديد في بيت خليل الحوراني الكائن في الخليل القديمة قريبا من الحرم الإبراهيمي ، نتناول ما تيسر من طعام تعده لنا والدة خليل التي كان يطلق عليها تحببا لقب (الشيخة) رحمها الله أو في بيت أحمد البعم الذي كانت والدته رحمها الله تكرمنا بما لديها أو في بيت عثمان (رحمه الله) أو في بيتي المتواضع بالقرب من مدرسة أم عمار بنت ياسر في طريق السبع ، وكانت والدتي رحمها الله إذا أعدت طعاما تستبقي لأصدقائي حصتهم منه ، فتقول هذا نصيب عثمان وخليل و أحمد.

كان عثمان مرحا لا يكف عن القفشات الساخرة ، اقترح علينا ذات يوم بعد رحلة قمنا به إلى المسكوبية حيث دير الرهبان الوحيد في الخليل والشجرة التي هم أن يذبح يعقوب (عليه السلام) ابنه قربانا لله فافتداه ربه بذبح سمين أن نقوم برحلة جماعية إلى القرى الأمامية و بعد أن قمنا بزيارة إلى بيت كاحل القريبة وأطللنا على تلك السهول الممرعة التي تربض فوقها المستوطنات اليهودية قررنا القيام برحلة جماعية إلى تلك القرى الحدودية ، فتزودنا ببعض الطعام و ذهبنا الأربعة عثمان و خليل و أحمد وأنا فمررنا بواد القف ثم ببلدة ترقوميا وبلدة إذنا ، وعلى حافة القرية التي لا أذكر اسمها الآن فرشنا ما معنا من متاع و أخذنا نعد عشاءنا المتواضع ، وإذا ببعض من هم قريبون منا من أهل القرية يأتون لنا بالطعام والعنب والشاي ، وأخذوا بمسامرتنا ومجاملتنا ، كان عثمان مرشدنا في تلك الرحلة القصيرة .

ثم افترقنا في شعاب الأرض بعد أن حصل كل منا على الثانوية العامة.

ما لبثت أن التحقت بجامعة القاهرة وانقطعت أخبار عثمان ، وعلمنا فيما بعد أنه التحق بالثورة الفلسطينية وكان قد درس الحقوق ، وبعد العهد بيننا إلى أن جاءني الصوت الحبيب على جناح الأثير يذكرني على طريقته الساخرة بالصحبة القديمة و بالرغبة في اللقاء ، كان يومها يعمل مساعدا للقائد العام الشهيد ياسر عرفات ، وتواعدنا على أن نصل ما انقطع بيننا بعد هذه السنين الطوال في فلسطين حين أذهب إلى هناك لعقد قران ابنتي ، والتقينا في مدينة الزهراء بعد أن أرسل إلى من اصطحبني إلى مكان إقامته هناك في بيت متواضع ومعه زميلان له لعل أحدهما فيما أذكر كان نائبه بوصفه مفوضا سياسيا عاما لفلسطين ، وتحدثنا في أمور كثيرة وسألني عن صديقنا القديم أحمد البعم وطلب مني أن أنقل إليه عرضا بالمساعدة لابتعاث أحد أبنائه إن كانت حالته المادية لا تساعده على تحمل نفقات التعليم ، وقد ألح علي أن اصطحب الأسرة لأكون في ضيافته في رام الله ، ولكنني اعتذرت لارتباطي بالسفر إلى عمان ، وظلت العلاقة بيننا متصلة زمنا فأهداني كتابه وديوانه ، ثم أرسل إلي قصيدته في رثاء الرئيس الراحل أبو عمار، فقمت بكتابة قراءة نقدية لها أرسلتها له بالفاكس ، وكنا نتواصل عبر هاتفه الأرضي حيث كنت أفاجأ فيه في مكتبه في ساعة متأخرة من الليل ، ثم انقطعت أخباره و لم استطع الاتصال به خصوصا وأنه كان لا يحب الهاتف المحمولة وكانت هواتفه الأرضية لا تجيب ، وكنت أطمئن عليه من خلال بعض الأصدقاء حيث علمت أنه كان مريضا بالقلب وأنه يقضي شطرا من وقته في التردد على المستشفى.

كان يقول لي أننا بدأنا من نقطة البداية فقد علّمنا التاريخ أن الدول التي تعتمد على القوة العسكرية تمنى بالهزيمة إذا بدأت بالتراجع ، وكان يقول أن دخولنا إلى فلسطين وإقامة السلطة الوطنية بداية هذا التراجع ، وكان على يقين من أن الاحتلال زائل لا محالة وأن إسرائيل إلى زوال ، وكنت أعرف معرفة يقينية من خلال العديدين من المحيطين به أنه رجل محبوب وقائد حكيم ، وقد ترأس مؤتمر فتح السادس وأداره بحنكة ، نعرف بنظافة اللسان ، فكان في أسوأ لحظات الأزمة بين فتح و حماس يمسك عن الإساءة ، ويبدو متزنا رزينا .

لقد تحدث في كتابه الرحلة إلى الجنوب على ما أذكر عن العلاقة التي ربطته بأصدقائه القدامى ذاكرا أربعتنا بالاسم (خليل و أحمد وعثمان و محمد) ومعتبرا شعار( نحن فلسطين ) بداية استشعارنا بالقضية الوطنية علما بأننا عدا صديقنا الحوراني انصرفنا في اتجاه آخر باحثين عن أبواب الرزق واستكمال تعليمنا العالي ، كان الرجل وفيا إلى الدرجة التي منحنا فيه شرف صحبته في نضاله الوطني في بواكير حياته عند البدء بكتابة تاريخ الثورة إذ فوجئت بصور لنا في مرحلة الستينيات التي أشرت إليها آنفا إبان رحلتنا إلى القرى الأمامية تظهر على شاشة تلفزيون فلسطين إبان الإدلاء بشهادته عن تاريخ الثورة الفلسطينية للأستاذ يحيى يخلف الذي تولى التأريخ لهذه الثورة ، وكنا قد انقطعنا عن التواصل زمنا طويلا ، كنت خلالها أتلقط أخباره من خلال لقاءاتي القليلة مع الصديق نزيه أبو نضال (غطاس جميل صويص) الذي كان مناضلا بالسلاح والإبداع و الإعلام و الثقافة .

ظل أبو عبد الله وفيا لمبادئه التي عرفناه متمسكا بها منذ صباه ، وكان شديد الاعتزاز بعمه شيخ المجاهدين بهجت أبو غربية ، وكان الحاضر الغائب في معظم اللقاءات التي جمعتنا برفاقه الذين كانوا يعملون معه ، وحينما تشكلت لجنة الكتاب والصحفيين لمؤازرة الانتفاضة الفلسطينية عام 1988و جرت الانتخابات لهذا الغرض واجتمعت بعد الانتخاب لاختيار رئيس اللجنة التي كانت برئاسة الأخ أبو إياس (د. أحمد الريماوي ) وحضور الأخ أبو شاكر سفير دولة فلسطين آنذاك كان – فيما أذكر – يتم الحديث بالمصادفة عن عثمان أبو غربية فأسمع ثناء عطرا من الجميع عليه.

رحم الله فقيدنا أبا عبد الله الذي صدمنا برحيله المبكر ، كان مثالا للوطنية في صفائها ونقائها مخلصا دؤوبا حكيما.

بقلم/ أ.د محمد الشنطي