عرب: وحدة وقاصمها المشترك!

بقلم: جواد بولس

من القضايا التي استظهرها الإعلان عن حزب الوفاء والإصلاح كحزب سياسي إسلامي غير برلماني سينشط بين ظهرانينا، كانت تلك الأسئلة والتساؤلات المتعلقة بمكانة ودور الأحزاب والحركات السياسية العربية في البلاد، أو كما عبر عن ذلك محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا، في كلمته التي ألقاها في المؤتمر الصحافي التأسيسي للحزب الجديد، حين تساءل بشكل مباشر: "هل هناك حاجة لحزب جديد؟ هذا السؤال هو سؤال مهم، وليس سؤالًا موجها فقط للقائمين على حزب الوفاء والإصلاح إنما لكل مجتمعنا..".
لقد أصاب بركة حين حذر، في معرض إجابته على ذلك السؤال، من "ظل صناعة التنفير من العمل السياسي ومن عمل الأحزاب والدعوة إلى الفردانية وخصخصة الهم العام"، فكلنا نشاهد حالة عزوف شعبي جارف عن هموم السياسة العامة، ونشاهد كذلك أفواج هجرة جماعية من أحضان الأحزاب السياسية العربية وأهمّها، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وحزب التجمع الوطني؛ ومن الواضح أنه لا يمكن إعفاء قادة الأحزاب من مسؤولياتهم عن تلك الانهيارات التي هزت بنى وحصانة مجتمعنا الوطنية، وخدشت خاصرة هويتنا الوطنية، التي عكف آباؤنا السياسيون الوطنيون على رتق ثوبها، وتوثيق عراها المهلهلة بالتضحيات الجسام.
انحسار دور الأحزاب والحركات السياسية الوطنية أصبح واقعا يلقي ظلاله الثقيلة على قدرات مجتمعنا النضالية ونتائج ذلك تتفاعل، من يوم إلى يوم، بوتائر متصاعدة ووفقًا لمتوالية هندسية لئيمة وخطيرة. فالمؤسسة الإسرائيلية تعمل، بوسائل وأدوات متنوعة، من أجل تعميق الهوة بين الجماهير وقياداتها الوطنية، وهي تستغل في معركتها هذه كثيرا من عكاكيزها، وكذلك بعض الخراطيش والفقاقيع التي يلقيها، بغير مسؤولية، بعض القادة العرب وجنودهم في حقولنا وعلى بيادرنا، وفي مشهد متكرر طالما سهّل مهمة العنصري، الذي لا ينام قبل أن يطمئن على أن ضلعا آخر من ضلوع قفصنا الصدري قد كسرت.
لم يكن سرا أن كثيرين مثلي من مصابي الماضي العاجز استبشروا خيرا بعد حالة التقهقر العام والدجل المتفشي، إذ استقدموا الفجر بعد انتخاب محمد بركة رئيسا للمتابعة، فعقدنا على قيادته آمالا، واستمطرنا غيوم الورد والبركات، فهل ما زال ذاك الأفق رحبا والربيع طلقا؟
الحكمة في الصيغة والحرفة عند الصائغ، فمن المعروف أن الفقهاء والعلماء في علم الكلام وفلسفة النص وفنّه، أولوا صيغة السؤال الأهمية القصوى والحاسمة، لأن الإجابة تولد دوما ابنة لتلك الحكمة وزينتها، فمن الطبيعي ألا يختلف عاقلان على أن "وجود أحزاب سياسية هو أمر مهم جدًا في حياة مجتمعنا"، كما أقر وبحق بركة في معرض إجابته على سؤاله المذكور، ولكنني أرى أن الوضع سيكون مغايرا لو أختار بركة، أو الإعلاميون الذين حضروا ذلك المؤتمر، طرح السؤال بصيغة مغايرة، مثل: هل هنالك حاجة لتأسيس حزب إسلامي غير برلماني جديد؟ فهذه الصيغة أصح وأنسب في مناسبة مخصصة للإعلان عن تأسيس حزب إسلامي جديد سيعمل من خارج الكنيست.
تردد قادة الأحزاب الوطنية والحركات السياسية أو تحسسهم من وضع ومواجهة الأسئلة الصحيحة في عدة قضايا مصيرية وجوهرية، كان من أهم مسببات ضعف هذه الأحزاب وتراجع تأثيرها في المجتمع، فطيلة سنوات خلت تمنّعت القيادات من الخوض في: معنى ومضامين الوحدة العربية المحلية، دور الأحزاب والحركات الدينية وحاجة مجتمعنا إليها، علاقة مؤسساتنا الوطنية مع الدينية وكلّها مع الدولة ومؤسساتها، وسائل النضال، أهدافه المرجوة وساحاته، تعريف وتشخيص للمخاطر وأولويات مواجهتها، تصنيف لمعسكرات الأصدقاء والحلفاء والأعداء، تحديد موقف من ارتباط أحزاب وقيادات بأنظمة حكم خارجية، تحديد موقف من ضخ المال السياسي والديني في بعض "جيوب" مجتمعنا وما لصق به من مؤثرات تسربت وتسببت،أحيانا، في شل أدمغة الفقراء المحتاجين وتحجيم حريات نخب متمكنة ومتسيّدة في مواقعها، وغيرها من القضايا التي ردمت تحت قبعة الإخفاء التي سماها القادة جزافًا: الوحدة.

لذي الحلم تقرع العصا

وبالعودة إلى همنا في هذا المقال، فإننا سنجد قلة من كتابنا وصحافيينا قد تنبهت لأهمية تلك القضايا الحارقة، لما قد يؤدي إليه، مثلًا، الاعتراف شبه الطبيعي من قبل الجميع بحق مجموعة بشرية تعيش بيننا بإنشاء حركة أو حزب إسلامي سياسي سينشط بهدي الشريعة المسيّسة، ويعمل من أجل إقامة دولة الخلافة، وما قد يستجلبه هذا الاعتراف، بالنزاهة والمثلية، من وجوب اعتراف مقابل بحق مجموعات دينية أخرى بإنشاء أحزاب دينية سياسية؛ فهل، على سبيل توضيح هذه الإشكالية، كان بركة وقيادات جماهيرنا الوطنية والإسلامية، سيشاركون، مثلًا، في مؤتمر صحافي تبادر إليه مجموعة مسيحية معروفة بمواقفها المعلنة على المنابر واليوتيوب، من أجل إعلانها عن تأسيس "حزب العشاء السري"، في حين يؤكد قادته أنه حزب سيعمل بمنظومة مسيحية وبهدي شريعة المسيح وتعاليم رسله الأكارم؟
لا أتذكر كثيرين قاموا بمواجهة هذه المعضلة "الديليما"، فالمجتمع العربي المحلي بلع جميع تلك الإشكالات بصمت مريب وبقصور صارخ، إلا أنني تذكرت، وأنا أكتب اليوم، ما كتبه الصحافي محمود أبو رجب، وهو كاتب وصحافي متميز، تشدّك جرأته إلى ما يكتب، ويجبرك وعيه بمسؤوليته على احترام وتقدير قلمه، فهو، مع قلة نادرة، تطرق إلى إشكالية الأحزاب الدينية واشتباك صنانيرها في شباك حيزاتنا السياسية، وحسم أمره من فوائدها لمجتمعنا.
ففي مقالة نشرها في جريدة "الأخبار" الأسبوعية النصراوية في أبريل 2014 تحت عنوان" الحركات الدينية والسياسة" كتب: "هذا موقفي كان ولا يزال من الحركات الدينية، ولكن من باب الإنصاف والعدل والنزاهة ومن باب من ساواك بنفسه فما ظلم، أيدت إقامة حزب مسيحي، لكن هذا لا يعني أنني أويد التفرقة الطائفية.. إنما يعني التأكيد على أن إقامة أحزاب سياسية على أساس ديني غير صحيح وليس بمصلحة الجماهير العربية في هذه البلاد..ومن هنا يجب إبعاد الدين عن السياسة".
صدق أبو رجب في إجابته، وكان قد أصاب قبلها بوضع صيغة سؤاله، فهو وأمثاله نبّهوا سادة المجتمع من غير تأتأة، ولكنّهم فعلوها بدون جدوى، فمعظم قياديينا آثروا دفء كوانين القبيلة وحماية الخيمة ونسوا لـ"من كانت تقرع العصا".
لقد أجاب بركة في ذلك المؤتمر الصحافي على سؤاله الثاني فيما إذا كانت الأحزاب العربية القائمة في مجتمعنا تكفي، أو ما إذا بقيت هوامش وحاجة لولادة أحزاب جديدة؟ وفي معرض إجابته عدّد المبررات الموجبة لتأسيس حزب سياسي مقبول ومستساغ؛ لقد كان استكشافه متماشيًا مع هواجس الجماهير العريضة وتساؤلهم الأعوص، فهل فعلا ما زالت الأحزاب السياسية الفاعلة بيننا تؤدي وظائفها الوطنية؟ وهل يسد وجودها الحاجة المجتمعية ويغني عن إقامة أحزاب جديدة؟
إجابة بركة كانت صحيحة وكذلك ما عدّده من مبررات، لكنها إجابة خلقت لدينا إشكالا مزدوجا، فمن جهة، لا ينطبق ما ساقه كمبررات على حزب سياسي ديني أيا كان، فهـــــذه الأحزاب بطبيعتها البنيوية تكون إقصائية وفئوية وغير منفتحة على قبول الآخر، ومن جهة ثانية، حين ندقق بمبرراته نستنتج أن الأحزاب القائمة في المجتمع العربي كادت تفقد مصداقياتها وأسباب وجودها، مما يضع قياداتها ومؤسساتها أمام خيار من اثنين: فإما أن يعيدوا بناء نظمهم ومنظوماتهم وتنظيمهم، وإما أن يتوقعوا لجوء الجماهير إلى خيار إقامة حزب أو أكثر "يغطي حيزًا سياسيًا وفكريًا، ويتحدث إلى جميع الناس رجالا ونساء، ومن كل المناطق ومن كل الانتماءات الاجتماعية، وألا يكون مطية لمآرب شخصية أو فئوية أو إقصائية على أي أساس كان"، وفق رزمة المواصفات التي سمّاها بركة، المبررات المطلوبة لإقامة حزب سياسي مقبول.
نحن في مرحلة سياسية حرجة وعلى عقلاء مجتمعنا أن يلتفتوا لفداحة الخطر وقربه منا، فمسؤولية رئيس لجنة المتابعة أكبـــر من المحافظة على وحدة عرجاء لا تحمي عظام أفرادها ولا مراعيهم، ومحمد بركــة، وهو الجبهـــوي الوطني، ما زال يمثل عنوانا لأمــــل الكثيـــرين ولإيمانهم أنه سيحمي، بوحدة كفاحية وطنية واقعية حقيقية، ســـقف الوطن وحرمات بيوتنا، وعليه، وهو السياسي الحاذق والمجرب والقادر، أن يتنبه، وهو يسعى وراء ذلك "القاسم المشترك"، على أن العرب تعيـــش اليوم واقعـــا تتهادى حدوده على شفرات نصف رغبته الأول: فواقعنا قاصم ومشطور وغمدنا حارق والحلم مفقوء، أما ذاك "المشترك السحري" فلســوف يبقى الغائب المشتهى، وقد تجدونه في أثداء السماء وغيومها السوداء، أو مختبئا في عباءات الملل أو نائما تحت عمائم النحل.
قاسم العرب، اليوم، هو قاصم يا رفيقي، وهو بئر وصحراء غاضبة، تعويذة وناهد وبطر، لا شيء يجمعهم، ولا بينهم بِر ولا مشترك إلا الكفر وبكاء العين على جدودها العرب، وبعضهم كان قد تعلم من صدق السراب وتنبّه من حكمة الرمل فنجوا وقالوا: لذي الحلم تقرع العصا.

٭ كاتب فلسطيني

جواد بولس