عطاف عليان، قاهرة السعدي، منى قعدان، وضحة الفقهاء، هناء شلبي، فلسطين صبّاح، فاطمة الزق، نوال السعدي، هيام البايض، ريما دراغمة، وردة بكراوي، منال سباعنة، إحسان دبابسة، رجاء الغول، صابرين أبو عمارة، فاتن السعدي، ولينا الجربوني وأخريات كُثر ممن انتمين لحركة الجهاد الإسلامي ودافعن عن فلسطين وشعبها، وقاومن الاحتلال الإسرائيلي ومررن بتجربة الاعتقال وذُقن مرارة السجن وقسوة السجان وقهر القضبان. فسجّلن تجارب متعددة ممزوجة بإرادة لا تلين ومشحونة بالإصرار العنيد خلف قضبان السجون، وقدمن نماذج في الصمود والانتصار. ونجحن في حفر أسمائهن بأحرف من نور في سجل الحركة النسوية الأسيرة داخل سجون الاحتلال.
وكل واحدة منهن لها تجربتها الخاصة، والتي تتشابك بالطبع مع التجربة الجماعية للأسيرات الأخريات اللواتي انتمين لفصائل العمل الوطني والإسلامي، ويُقدر عددهن بأكثر من خمسة عشر ألف أسيرة منذ العام 1967، ومنهن من خاضت الاضراب عن الطعام رفضا للاعتقال الإداري لأيام وشهور عدة قبل أن يقرر الأسرى الذكور مثل هكذا خطوات نضالية، ومنهن من وصلت ايام اضرابهن عن الطعام لثلاثة ايام بعد الأربعين وما يزيد، ومنهن من صدر بحقها أحكاما بالسجن المؤبد لمرة وأكثر لاتهامها بمشاركة الرجل في عمليات فدائية نوعية، ومنهن من أنجبت في السجن في ظروف هي الأقسى، ومنهن من تحررت وأعيد اعتقالها للمرة الثانية والثالثة، بل وأكثر من الرابعة. وبعضهن لا يزلن في السجن قابعات بين جدران أربعة وداخل زنزانة معتمة أبرزهن الأسيرة لينا الجربوني. وحينما نخصص الحديث في هذا المقام عن اسيرات انتمين للجهاد الإسلامي، فلا يعني هذا تمييزا من جانبنا لأسيرات دون غيرهن، وانما فقط لأن العنصر الأساسي في عنوان مقالتنا "لينا" مرتبطة بهذا التنظيم.
ولدت الأسيرة "لينا احمد صالح جربوني" في الحادي عشر من يناير عام 1974 لأسرة فلسطينية مناضلة في بلدة عرابة – البطوف، وهي إحدى القرى الفلسطينية القريبة من مدينة عكا الساحلية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وكان والدها الحاج احمد قد اعتقل أواخر سبعينيات وبداية ثمانينات القرن الماضي وأمضى ثماني سنوات في السجون الإسرائيلية.
وتعتبر "لينا" هي الأخت الوسطى من بين تسع شقيقات وثمانية أشقاء رزق بهن الحاج احمد الجربوني من زوجتين اثنتين. تلقت تعليمها الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس القرية، كما أنهت دراسة الثانوية العامة في الفرع الأدبي عام 1992 غير أن وضع أسرتها المادي حال دون إكمال دراستها الجامعية.
اعتقلت "لينا" في الثامن عشر من نيسان/ابريل عام 2002 بتهمة الانتماء لحركة الجهاد الإسلامي ومساعدة رجال المقاومة في تنفيذ عملياتهم الفدائية وأنشطتهم ضد الاحتلال، وصدر بحقها حكما بالسجن الفعلي لمدة 17 عاما. أمضت منها أربعة عشر عاما بشكل متواصل، ودخلت قبل ايام عامها الرابع عشر، لتحفظ لنفسها لقب "عميدة الأسيرات".
ولقد لازمها هذا اللقب قسراً منذ سنوات مضت، فيما تحفر اليوم بصمودها وعنفوانها وثباتها، اسما عظيما في الذاكرة الفلسطينية، ومكانة عريقة في سجل التاريخ المشرق للحركة الأسيرة يمنحها أن تقف في مقدمة كافة الأسيرات الأخريات اللواتي سبقنها لتغدو عميدة الأسيرات عبر التاريخ. باعتبارها أكثر الأسيرات الفلسطينيات والعربيات في تاريخ الثورة الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي قضاءً للسنوات داخل سجون الاحتلال. هكذا يقول التاريخ وهكذا تشير الوقائع والوثائق.
طبعا هذا يسجل لها، ويدفعنا للفخر والاعتزاز بها، ويسجل علينا لبقائها طوال تلك السنوات الطويلة دون ان ننجح في تحريرها، ونحن لم نكن نرغب في أن نسجل ذلك، حيث لا يعنينا أن نعدد السنوات بقدر ما يعنينا حرية أسيراتنا وأسرانا، ولم تكن هي الأخرى تتمنى أن تبقى في السجن سنوات طوال كي نقول عنها كذا. لكن القدر جعل منها ذلك. ولأن الواقع كذلك فان من حقها علينا أن نقول عنها أكثر مما قلناه، وأن نمنحها من الحق ما لم نقله بعد ولم يقله الآخرون بحقها. فهي مجاهدة من فلسطين تستحق منا كفلسطينيين وعرب ومسلمين الكثير الكثير. لهذا أختيرت امرأة فلسطين لعام 2015
"لينا" وبالرغم من مرور أكثر من أربعة عشر سنة متواصلة وهي قابعة في زنزانة معتمة وبين أربعة جدران داخل سجون القهر والحرمان، وبالرغم مما مُورس ضدها من صنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، وما اقترف بحقها من انتهاكات جسيمة وما تعرضت له من ذل واهانة و معاملة لا إنسانية، وما لحق بها من أذى بأوضاعها الصحية فاقم من معاناتها. إلا أنها ظلت وستبقى صامدة وثابتة، تتمتع بإرادة صلبة وعزيمة لا تلين، منتصبة القامة تمشي، شامخة شموخ الجبال، عصية على الانكسار.
"لينا"، فتاة فلسطينية تبلغ من العمر اثنان وأربعين عاما، تشكل مدرسة في العطاء والتضحية، في الصبر والصمود، وقدمت نموذجا يُحتذى في سلوكها وتعاملها مع أخواتها الأخريات القابعات معها في السجن، فهي الحاضنة والراعية لهن بحكم أقدميتها وخبراتها واجادتها للغة العبرية، وهي مبعث القوة والارادة والعزيمة للحديثات منهن، وهي من تمثلهن جميعاً أمام إدارة السجن، فهي الأخت والأم والمجاهدة والرفيقة والمتحدثة والمعلمة ، هي كل شيء لهن.
لكنها –للأسف- ليست كل شيء بالنسبة لمن هم خارج السجون. حيث تعاني من آلام السجن وقسوة السجان، وما يسببه ذلك من آثار سلبية على أوضاعها الصحية، حيث تعاني من العديد من الأمراض جراء الظروف القاسية وشحة العلاج واستمرار سياسة الاهمال الطبي. الأمر الذي يفاقم من معاناتها دون أن تحظى قضيتها باهتمام يليق بها وبمكانتها وتضحياتها لدى كل الفلسطينيين. خاصة وأنها تُركت بعد صفقة "شاليط" وما تعرف فلسطينيا "وفاء الأحرار" داخل السجن نتيجة لخطأ وقع فيه المفاوض الفلسطيني الذي أشرف على اتمام الصفقة، ليبقيها في السجن !
"لينا" مجاهدة من فلسطين، تقطن في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وتعيش داخل حدود الدولة العبرية، وتحمل الهوية الإسرائيلية ، ترفض الرحيل أو الاندماج في المجتمع الإسرائيلي. وتُصّر على التمسك بجذورها الفلسطينية وهويتها العربية والقومية، وتتمسك بحقها في مقاومة الاحتلال. لم تنكسر أو تستكين، ومن شدة آلامها تصدح في آذاننا صرخاتها، لتفتح وبقوة ملفها الشخصي بشكل خاص، وملف استهداف المرأة الفلسطينية بشكل عام وما تعانيه بعد الاعتقال من ظلم وقهر في سجون الاحتلال الإسرائيلي. واعتقد جازماً بأن من حقها علينا ومن واجبنا تجاهها نصرتها والوقوف بجانب كل أسيراتنا، بما يعزز من صمودها ويرفع من معنوياتها ويخفف من آلامها ومعاناتها ويُقرب من تحقيق حلمها بالحرية والعودة الى أهلها وشعبها، وبما يعزز من صمود أهلنا في المناطق المحتلة عام 1948 ويرفع من معنوياتهم، ويضع حدا لاستهداف المرأة الفلسطينية والاعتقالات المستمرة في صفوفهن.
وتبقى "لينا" فلسطينية المولد والنشأة، متمسكة بالهوية والانتماء. وتبقى حكايتها جزءاً من الرواية الفلسطينية الطويلة، ويبقى اسمها محفوراً في الذاكرة الفلسطينية..
بقلم/ عبد الناصر فروانة