هناك مثل عربي يقول "التاجر الشاطر هو الذي لا يقرب من رأس ماله". فالتاجر قد يربح كثيراً قي صفقة تجارية، ويربح قليلاً قي صفقة أخرى، وقد لا يربح في صفقة ثالثة، ولكن الخطر الأكبر هو الاقتراب من رأس المال، وبداية الخسارة والنقصان به فإن ذلك يعني الانهيار الحقيقي للتاجر، وطريقه إلى الزوال. علينا أن نقول أن الفصائل الوطنية والإسلامية على السواء قد فشلت في معركة التحرير. وأن التضحيات لشعبنا أكبر من الإنجازات، وقد أطلقنا على ذلك في مقال سابق لنا " الحصاد المر". فقد نشأت منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964م من أجل تحرير فلسطين وكل فلسطين كما ورد في ميثاقها القومي أولاً ثم ميثاقها الوطني ثانياً. وعند نشأتها كانت الضفة الغربية والقدس وغزة في يد العرب. والآن وبعد أكثر من نصف قرن فإن النضال الفلسطيني الوطني يهدف إلى تحرير ما كان بأيدينا، بل أصبح هدفها أقل من ذلك بكثير. وهنا بمقياس الربح والخسارة، وأن الأمور تقاس بخواتيمها فإن منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها قد خسرت في معاركها العسكرية والسياسية، ولا يوجد الآن في أفقها سوى مشروع سياسي فاشل لم يحقق تقدمه على الأرض وهو مشروع التسوية السياسية في أوسلو. وبقيت الفصائل الوطنية أسيرة المشروع صاحبة له أو معارضة، ولم تتجاوز المشروع برؤية جديدة يمكن البناء عليها. فحركة فتح لا تزال أسيرة هذا المشروع الفاشل قيادة ورؤية وبرنامج. بل هي تعاني من حالة انقسام رأسي وافقي يهدد مستقبلها بعد الرئيس أبو مازن.
وتعاني الحركات الإسلامية من وضع مماثل، فحكم غزة ثم التهرب منه ظاهرا، والإبقاء على السيطرة واقعاً في حالة غير طبيعية من الخطاب والممارسة. فهي قد خاضت المقاومة ضد ثلاث اعتداءات وحشية على غزة، وعلا صوت خطابها الإعلامي والسياسي بالانتصار دون أن يترجم ذلك واقعا في الحياة اليومية في غزة. فهي أسيرة خطاب أيدلوجي لم يعد له قبول شعبي، وتحولت للأسف مثل حركة فتح في الضفة من حركة مقاومة إلى حركة سلطوية بأجهزة أمنية قامعة للشعب. مع العلم أن نجاح أي حركة مقاومة هي في الحاضن الشعبي لها وليس بأجهزتها الأمنية. ولذلك فلا تزال حماس تمارس خطاب المعارضة بالرغم من أنها المسيطرة الفعلية على أمور قطاع غزة. تتهجم على سلطة رام الله وكأنها السبب في مشاكل قطاع غزة كأي حركة معارضة تهاجم السلطة الحاكمة دون أن تدرك حماس أنها من تدير غزة وعليها البحث عن حلول لمشاكله، وعدم إلقاء اللوم على الآخرين مع إدراكنا أن الآخرين ليسوا ملائكة، وأن السياسة للأسف حتى بين الأشقاء تقوم على المناورة والمؤامرة. فحركة حماس بالرغم من أنها تحكم غزة فعلياً وليس حكومة الوفاق الوطني الذي تعلق حماس عليها أخطائها وأوضاع غزة المتأزمة. كما أن إشكالية حركة حماس في أنها تحكم الشعب بالرغم من كونها أسيرة نفسها كتنظيم. فحركة حماس لا يمكن أن تحول لحكومة شعب وتيار جماهيري وهي أسيرة خطابها الفئوي التنظيمي الذي يعامل الآخرين كعصاه ومواطنين مشكوك في ولائهم وحتى وطنيتهم، ودينهم. فهي تسير وفق تربيتها الحزبية " من ليس معنا فهو علينا". ولذلك يبدو واضحاً بأن حركة حماس تحكم غزة لصالح تنظيمها وقيادتها وليس لصالح الشعب. فخيرها لأفرادها وشرها للآخرين. ولذلك علينا القول بأن حركة فتح ذات مشروع سياسي مأزوم وحركة حماس ذات مشروع مقاوم مأزوم أيضا. والكل يدور في حلقة مفرغة.
وحيث إن كلا الطرفين قد فشل في معركة التحرير فإن الحفاظ على رأس المال يعني الحفاظ على صمود شعبنا على أرضه. فهذا هو رأس المال الحقيقي لقضيتنا وشعبنا ومشروعه الوطني. فإن لم تستطع التقدم خطوة للأمام على الأقل حافظ على مكان قدميك. فالمشروع الصهيوني يقف في جوهره على ساقين الاستيطان والهجرة. ولذلك علينا أن نحافظ على صمود شعبنا على أرضه في مواجهة المشروع الصهيوني. ولذلك على الفصائل الآن الوطنية والإسلامية أن تضع الخطط اللازمة للحفاظ على بقاء شبابنا على أرضه. فحركة فتح تطارد حركة حماس في الضفة، وحركة حماس تطارد حركة فتح في غزة. وحركة حماس تهتم بأفراد تنظيمها في الوظائف وحتى مشاريع البطالة والكابونات، ولا تهتم بالآخرين كأنهم من كوكب أخر وليسوا أشقاء. فالوظائف هنا وهناك لعناصر التنظيم وليذهب من هم خارج ذلك للجحيم. ولذلك أصبح أبناؤنا الخريجون بلا مستقبل وبلا أمل. وعندما تتقابل معهم وتحاورهم تجدهم يفكرون في الهجرة خارج الوطن. بل إن العديد منهم قد جابه المجهول وأمواج البحر وعصابات المهربين بحثاً عن الأمل المفقود. ووصل الأمر بعائلات بكاملها في التفكير بالهجرة أو الهجرة فعلاً إلى الدول الاوروبية. ومن هنا تقع المسؤولية على أولي الأمر بأن ينهوا الانقسام، ويفكروا في مستقبل الأجيال القادمة، ويبحثوا لهم عن حول يعزز صمودهم، ويبعد عنهم شبح التفكير في الهجرة. فإن كانت الفصائل الوطنية والإسلامية لم تحقق تقدما في معركة التحرير فعليها أن تحرز تقدما في معركة الصمود. وهذا هو بيت القصيد. فمن يواجه مأزق في الربح عليه أن يحافظ على رأس ماله.
بقلم/ د. خالد محمد صافي