لم تكن مفاجئة هزيمة الشبيبة الفتحاوية في إنتخابات جامعة بيرزيت 2016, والأمر المؤكد أن حركة فتح ستحصد فشلاَ جديداً في أي مكان تجري فيه إنتخابات ديمقراطية حقيقية وفي أي حراك تقوم به الحركة على مختلف الصّعد بما في ذلك العودة لقيادة النضال التحرري للشعب الفلسطيني، فالتراجع والإخفاق هما السمة الأبرز في أداء حركة إستولى على قرارها ديكتاتور يعبث في كل شيء، ويقامر بمستقبل الفلسطينيين جميعاَ دون إستثناء، أحزاب ونقابات ومؤسسات سلطة ومؤسسات إقتصادية دون أي رادع، متسلحاَ بعصابة من أجهزة القمع وعصابة أخرى من الإعلاميين ورجالات المال الذين تاجروا بكل شيء.
لم أستغرب أن يخرج حشد من الجماهير لإحراق صور محمود عباس وعشرات التظاهرات التي تطالب برحيله، لكني توقعت أن يتزعم هذه التظاهرات أبناء حركة فتح وكوادرها، بإعتبارهم المتضرر الأول من إستبداد محمود عباس وإجرامه بحق الحركة وتاريخها وعلاقاتها الوطنية ودورها الطليعي، هكذا فعلت جميع ثورات التصحيح داخل الأحزاب السياسية في العالم، وهكذا استعادت مكانتها ودورها بعد أن واستحوذت على ثقة الجماهير بقدرتها على المحاسبة والتغيير، وجهوزيتها لمعالجة أيّ خلل مرحلي عطّل تطورها.
تباكى البعض على الصورة ولم يتباك على التاريخ والثورة والبرنامج والشهداء، نافقوا محمود عباس ولم يشعروا بالخجل من الهزيمة تلو الهزيمة، وظنوا أن أجهزة القمع يمكنها أن تؤسس لثقة الشعب أو تخرسه لوقت طويل، كما ظنّوا أن حالة القمع ستوفر لهم مزيدا من الوقت للغنيمة والثراء ومجاملة الإحتلال على حساب القضية الوطنية، وعلى حساب الدماء والشهداء وعذابات الاف الأسرى في معتقلات الإحتلال، فالصورة بالنسبة لهم أهم من إستعادة قطاع غزة، وأهم من وحدة حركة فتح، وأهم من تطوير منظمة التحرير الفلسطينية وبناء علاقات جبهوية متينة، وأهم من الإلتحاق بإنتِفاضة الجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، فكيف لا يفعلون ذلك وهم الشريحة الأكثر إستفادة من حالة الفوضى وغياب القانون وتغييب مؤسسات المحاسبة التشريعية والقضائية.
فتح حركة واسعة الإنتشار، موجودة حيثما وجد أبناء الشعب الفلسطيني، هي الحركة الوحيدة القادرة على التعبير عن المجتمع الفلسطيني بكافة مستوياته الثقافية والفكرية والإقتصادية، وهي الحركة التي قادت الثورة الفلسطينية المعاصرة، وتبنت مشروعاً للسلام لم يكتب له النجاح بفعل عوامل كثيرة، ما زالت مؤهلة لقيادة مشروعاً وطنياً كاملاً واقامة تحالفات واسعة لخدمة هذا المشروع، ونتيجة لهذه الصفات التي تتمتع بها "فتح"، فقد أصبحت مستهدفة أكثر من غيرها، وأجزم أن كل ما يجري داخلها هو محاولات خطيرة لوأدها والإجهاز على قضية الفلسطينيين التي حملتها، فالبداية بعزلها جماهيرياً والحد من قدرتها وتأثيرها، ومن ثم تحويلها إلى منظمة تحمي الفساد وعصابات البزنس السياسي المتواطئة مع الإحتلال وتنفيذ صفقة سياسية ما منتظرة، قد تكون على شكل مبادرة فرنسية تعيد إنتاج أفكار جون كيري الفاشلة، أو شيء آخر أخطر مما يعلن عنه.
إن استمرار عباس بقيادة الحركة بعد قائمة طويلة من الهزائم، يرشح الحركة للإندثار الأكيد، هذا الإندثار لن يطال فتح لوحدها، بل سيشمل كل الحركة الوطنية الفلسطينية التي تتأثر ببعضها، ولا يظن أحد أن دفاعه عن عباس هو حماية لحركة فتح، بل هو إنكار لحقيقة يخشى البعض من المجاهرة بها، وإغفال لحقيقة أن غضب الشعب أخطر بكثير من غضب الرئيس، مهما كانت المغريات والحوافز التي يجنيها جراء الإصطفاف إلى جانب الديكتاتور.
الإحتلال وحماس لم يستطيعا الإجهاز على حركة فتح حتّى الآن، وكذلك الإنشقاقات، فقد كانت حركة يرأسها زعيم، لها برنامج واضح وأهداف واضحة وتمارس دوراً وطنياَ مقنعاً لأبناء الشعب الفلسطيني، ورئيسها امتلك هامشاً واسعاً من المناورة والتكتيك، وقدرة عالية على الإستقطاب وتجنيد الحلفاء، أدار الإختلاف بأخلاق الثوار، وحاول صناعة السلام في ظل مواجهة مستمرة مع الإحتلال، ولم يخضع لإبتزازاته الأمنية والإقتصادية، ولم يجاهر بالتامر على المناضلين والإحتماء بعار التنسيق الأمني .
المؤسسة والإدارة الجماعية مهمة ومطلوبة، ولكن لا يمكن إغفال أهمية الأشخاص، فقد لعبوا أدواراً مهمة في التاريخ، والامثلة كثيرة على قوّة تأثيرهم في أداء الأحزاب والثورات والمجتمعات، ياسر عرفات في حركة فتح، وفلاديميير لينين في الثورة الروسية، وشارل ديغول في فرنسا، وجمال عبد الناصر في الثورة المصرية، والمئات من الأشخاص غيروا في احداث التاريخ، وخطّوا جغرافيا جديدة للعالم، ويمكن لحركة فتح أن تستفيد من التجارب العالمية لإستعادة دورها ومكانتها المفقودة، لدى هذه الحركة مناضلين يحظون بثقة الشعب بوزن القيادي محمد دحلان الذي يمتلك صفات القيادة وذكاء السياسي وحنكته ورشاقة الشباب والإنتماء لقاضاياهم، وورث الكثير من صفات الزعيم ياسر عرفات، ولديها مروان البرغوثي الذي يحظي بحاضنة شعبية كبيرة جعلت محمود عباس يتأرق كثيراً مع كل حديث عن إطلاق سراحه من معتقلات الإحتلال، هذان القائدان ربما يكونان فرصة فتح الوحيدة للتحليق من جديد في فضاءات الريادة، وللتأسيس لمرحلة ما بعد فشل أوسلو ورهانات التسوية السياسية مع حكومة الإحتلال التي استفادت كثيراً من ضعف القيادة وهزالة النظام السياسي الفلسطيني.
من السذاجة توقع أن يخلي "محمود عباس" موقعه للنائب "محمد دحلان" طواعية، أو حتى في إطار جهود مصرية وعربية تفضي لهذه المرحلة، فليس من سلوكيات الديكتاتور فعل ذلك، رغم تصريحات "عباس" أكثر من مرة برغبته في ترك موقع الرئاسة، ولكن من المنطق والحكمة أن يتداعى كل المحترمين في حركة فتح، الحريصون على مستقبلها بالشراكة مع أبناء الحركة الوطنية والتفكير في سبل الخلاص الجماعي، فالحركة موجودة ويمكنها تجاوز أزمتها، شرط التمرد على حالتها الراهنة والسرعة في إنتقاء الزعيم تمكنها وتمكن الحركة الوطنية والشعب الفلسطيني على الخلاص من مرحلة معتمة مفتوحة نتائجها على إحتمال واحد فقط، هو احتمال تكريس الإحتلال، ونهب ما تبقى من الأرض، وتشريد من تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني.
بقلم/ محمد أبو مهادي