عن المشكلة الحقيقية وعن تجلياتها

بقلم: عماد شقور

لو طلب الي اختيار افضل مطفئ حرائق في العالم، لكان مرشحي، وحصاني الذي اراهن عليه، هو اسرائيل.
ولو طلب الي اختيار اكثر معالج للظواهر، والتهرب من معالجة السبب الحقيقي لتلك الظواهر، لكان مرشحي، وحصاني الذي اراهن عليه، هو اسرائيل.
ولتوضيح الفرق بين المشكلة الحقيقية، وبين ظواهرها وتجلياتها، الجأُ إلى عالَم السيارات. اذ عندما تكون المشكلة نفاد الوقود من المركبة، يكون التجلي لتلك المشكلة، بظهور نقطة ضوء حمراء على لوحة القيادة، تقول لقائد المركبة ان الوقود على وشك النّفاد. وهنا يجيء دور صاحب العلاقة: إمّا ان يتوقف عند اقرب محطة وقود، ان كان عاقلا، ويعالج المشكلة بتعبئة خزان الوقود، وإمّا، ان كان مثل قادة اسرائيل، كأن يقطع سلك الكهرباء، او يفك المصباح الكهربائي مثلا، فيحل بذلك تجلّي المشكلة الحقيقية، ولا يحل المشكلة ذاتها.
هذا الحل غير المنطقي وغير السليم، يريح صاحب العلاقة. ولكنه يظل حلا قادرا على ايهام قائد المركبة بان الامور على ما يرام. فهو يعطي ذلك القائد راحة مؤقتة، لكن سرعان ما ينتهي مفعولها، حيث تتوقف المركبة دون الوصول إلى بر الامان، والى الموقع المقصود، حسب برنامج الرحلة.
لننظر إلى "تاريخ" اسرائيل:
نجحت بداية في اخماد واطفاء حريق حرب 1948، وثبتّت وجودها حتى على نحو27٪ من ارض فلسطين التي كانت معدة لاقامة دولة فلسطينية عربية عليها، ومددت حدودها لتصل وتشمل ام الرشراش، (ايلات لاحقا)، على البحر الاحمر.
ثم نجحت في ابراز عضلاتها خلال تآمرها مع بريطانيا وفرنسا، في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، باحتلالها شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، واوقفت، مؤقتا، ظاهرة الفدائيين التي انطلقت من القطاع.
لحق بذلك اخماد حريق حصارها باغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة الاسرائيلية عام 1967، وتم لها، في ضربة خاطفة، زيادة المساحة التي تسيطر عليها إلى خمسة اضعاف ما كانت عليه. وراحت تبني وتستثمر في تلك الاراضي، وتساوم على اجزاء منها، وبالتقسيط.
ثم انهت ازعاجات لها في الضفة الغربية، (بدعم عربي)، وجبهة الجولان، (بدعم عربي ايضا)، واقصى شمال فلسطين، من جبهة الجنوب اللبناني، حيث استفردت بالثورة الفلسطينية في اجتياح لبنان وحصار بيروت، وانجزت تشتيت قوات المقاومة الفلسطينية.
نجحت اسرائيل، حتى الآن، والحق يقال، في اخماد كل حريق يهدد وجودها، لكن السؤال الاهم، حول ما نحن بصدده، هو: هل في مقدور اتقان فن اخماد الحرائق، مهما كان بارعا، ان ينوب عن ضرورة، بل والزامية، معالجة وانهاء سبب اندلاع تلك الحرائق؟. وجوابنا هو "لا" نافية. وهذا هو سبب بقاء الاسرائيليين الاوائل وابنائهم واحفادهم ،حتى الآن، وربما لأجيال مقبلة، متمترسين داخل دباباتهم وخلف قنابلهم الذرية، وحريصين على وجود مسدسهم تحت المخدّة.
ليس في ان يكون الانسان مظلوما أي نوع من المتعة، ولكن ايضا ليس في ان يكون الانسان السويّ ظالما أي متعة ايضا. وصحيح تماما ما يقوله العرب: "نَم مظلوما ولا تَنَم ظالما". ذلك ان كان الظالم قادرا على النوم اساساً.
بعد هذا نصل إلى السؤال الجوهري: كيف يمكن لنا ان نميز بين المشكلة الحقيقية، وبين أحد او كل تجلياتها؟. المسألة بسيطة للغاية: تجليات المشكلة هي الظواهر، التي لا يشكل حلها، مهما كان بارعا، إزالة للمشكلة الحقيقية، وامكانية، بل وحتمية، عودة ظهورها وتجليها بنفس الصورة السابقة، او على صورة وشكل آخر.
مشكلة اسرائيل هي الحقوق الفلسطينية جميعها دون استثناء: حق التحرر والاستقلال وتقرير المصير، حق التعويض، وحقوق اللاجئين. وكل محاولات اسرائيل في الالتفاف على هذه الحقوق مجتمعة، او أي منها، هو معالجة لتجليات المشكلة الحقيقية. هذه هي الحقيقة. وكل نجاحات اسرائيل في اخماد نيران "تجليات المشكلة"، تظل نجاحات مؤقتة، قصيرة العمر، عبثية. هي نجاحات لرئيس الحكومة هذا او ذاك، في دحرجة الجمرة الفلسطينية الحارقة إلى حضن من يليه في شغل المنصب والكرسي.
اما على الصعيد الايجابي، بمعنى بدء التوجه لحل جوهر المشكلة، فإنه يمكن تسجيل اضطرار اسرائيل للتوقيع على اتفاقية اوسلو، واعترافها بوجود الشعب الفلسطيني، وبـ م. ت. ف. ممثلا شرعيا لهذا الشعب، على انه اشارات لبدء ظهور احتمال سلوكها طريقا يُؤدي إلى اعادة نسبة عالية من حقوق الفلسطينيين، ان لم نقل كل الحقوق الفلسطينية. وقد اعطى هذا التوجه للفلسطينيين آمالاً كبيرة بمستقبل في حياة مستقرة، في دولة فلسطينية مستقلة، واسترجاع كل الحقوق الفلسطينية، بل ولمس الفلسطينيون ذلك ببدء جلاء الاحتلال عن بعض المدن والقرى والمخيمات، وبدء عودة للاجئين إلى ارض فلسطين، شملت نحو نصف مليون لاجئ، وإن يكن ليس إلى مدنهم وقراهم الاصلية، لكنها تظل رغم ذلك بداية ايجابية. واعطى هذا التوجه الاسرائيلي الايجابي، تجاه حل جوهر القضية الفلسطينية، لاسرائيل نحو عشر سنين من الاطمئنان على امكانية اطالة عمر وجودها، وفتَح لها آفاقا سياسية ودبلوماسية، في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، لم تكن تحلم بها، وبدأ تكوّن حالة حياة من نوع آخر في اسرائيل: بدء علامات انسجام بين الفلسطينيين واليهود في اسرائيل، وبدء تواصل ما بين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بل وفي الشتات، وبين الاسرائيليين. لكن اليمين الاسرائيلي العنصري، عاود المبادرة، ونجح في اعادة "حليمة، إلى عادتها القديمة"، واعاد اريئيل شارون، رمز اليمين العنصري الاسرائيلي، في حينه، خلق مبررات لانطلاق الانتفاضة الثانية، التي اعادت مجمل الامور إلى مربعها الاول. وزادت، فوق كل هذا، انسحابا من جزء من الوطن الفلسطيني، دون تنسيق، لتخلق انقساما دمويا، عانى منه الشعب الفلسطيني،وما زال يعاني. لكن كل ذلك ظَلَّ، وما كان له إلا ان يظلّ، اخمادا لحريق هائل، دون الغاء اسباب اندلاع حريق اكثر هَولاً في مقبل الايام، قد يكون ما نشاهده هذه الايام على شاشات التلفزيون الاسرائيلي، مجرد بدايات له.
وفي ايامنا هذه، ومنذ سنتين تقريبا، "تتحفنا" صحف اسرائيل، وصحف اسرائيلية الهوى، عربية اللغة، ان لاسرائيل وللدول العربية في المشرق العربي خاصة، وفي المملكة العربية السعودية والخليج العربي على الأخص، عدو مشترك هو إيران، وخطر يهدد اسرائيل وتلك الدول تحديدا، هو القنبلة "الوهمية" الإيرانية. ويلحق بذلك بالطبع، كلام وخزعبلات عن اعادة "خلط اوراق" في المنطقة، وعن "تحالفات جديدة في الشرق الاوسط"، من مربّعات ومثلّثات يشكّل الضّلع الاسرائيلي فيها قاعدة لتلك الاشكال الهندسية الوهمية.
لكن، حتى لو تحققت لاسرائيل تلك "الاحلام الوردية"، وحتى لو صار الاسرائيلي العنصري، والضابط في جيش يحتل ارض الدولة الفلسطينية، ضيفاً مُرحّبا به في هذا البلاط او ذاك، رغم استبعاد ذلك تماما، فإن "المزاج" العربي عموما، وبشكل شامل وجارف، لن يقبل بالتطبيع مع اسرائيل والاسرائيليين، ما لم يُطبِّعوا هم مع الفلسطينيين في اسرائيل، بالغاء كل قراراتهم التي سلبت هؤلاء حقوقهم، وكل "قوانينهم" العنصرية ضدهم، وذلك وصولا إلى اعطاء الفلسطينيين في الضفة والقطاع حقوقهم، وانتهاء بالتعامل الايجابي مع مسألة اللاجئين وحلها بشكل عادل، "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم".
الجمرة الفلسطينية الحارقة، التي نجح الجيل الاسرائيلي الاول في دحرجتها إلى الجيل التالي، ثم نجح هذا في دحرجتها إلى الجيل الاسرائيلي الثالث الحالي، لم تخبُ، كما تمنت وتصورت وتوهمت غولدا مئير، بل تزداد اشتعالا وحرارة جيلا فلسطينيا بعد جيل.
فهل يعقل الاسرائيليون في يوم ما، ويتوجهون لحل معقول ومقبول للمشكلة الحقيقية، وليس الاكتفاء بحل تجلياتها؟. متى سيقلع الاسرائيليون عن سياسة الهروب إلى الامام؟. ان لم يفعلوا فهم الخاسرون، وليست حياة الظالم افضل كثيرا من حياة المظلوم.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني/ القدس العربي