اقتتال على لهيب شمعة!

بقلم: نبيل عمرو

ثلاثة أطفال ماتوا حرقا في أحد مخيمات غزة بسبب الشموع التي استعانت العائلة بها للإضاءة، بسبب الانقطاع شبه المستمر للتيار الكهربائي.
أن يموت طفل لأي سبب أمر يثير أعمق الأحاسيس والمشاعر حتى لو كان الموت بسبب مرض، أو لأي سبب عادي آخر.
أما أن يحترق ثلاثة بسبب شمعة، فهذا مدعاة لمزيد من الحزن والأسى.. وكان الله في عون ذويهم.
غير أن للسياسة رأيًا آخر في الأمر، فهذا النوع من الموت وجد من يوظفه لمصلحة أجندة لا علاقة للأطفال الصغار بها، ولا لذويهم وجيرانهم، ولا حتى لمائة في المائة من المواطنين الذين يعيشون في غزة ليس تحت خط الفقر فحسب، وإنما تحت خط أبسط مقومات الحياة الأدمية.
حماس التي أقامت جنازة للأطفال، وأقامت على المقبرة حفلاً تأبينيًا تحدث فيه السيد إسماعيل هنية، كانت الفكرة المركزية للخطاب هو اتهام سلطة رام الله بالتقصير في تزويد غزة بالكهرباء، وذلك وفق الرواية الحمساوية بالطبع، بالتعاون والتنسيق مع الإسرائيليين الذين يواصلون حصارهم للقطاع، مما يؤدي ليس فقط إلى الموت حرقًا بسبب الشموع وغيرها، وإنما إلى الموت مرضا وتسمما وقتلا.
وحين يجري توظيف مأساة إنسانية كهذه بهذه الطريقة، فإن الطرف الآخر لا بد أن يرد على الاتهام الظالم باتهام حماس بأنها هي وحدها المسؤولة عن الموت، حتى لو كان عاديا، ذلك أن حماس التي تهيمن بصورة مطلقة على الأوضاع في غزة لا يحق لها منطقيا اتهام الآخرين، مع أن حماس وفق الرواية المقابلة تستولي على جميع المداخيل من الضرائب والجمارك، ولا تورد أيا منها للسلطة في رام الله التي بدورها لا تكف عن القول إنها تنفق أكثر من نصف موازنتها على غزة.
الحادثة المؤلمة والتوظيف السياسي لها لا يكشف فقط غياب البعد الأخلاقي في موت ثلاثة أطفال، وإنما يؤشر على أن حالة العداء داخل العائلة الفلسطينية بلغت عمقا يثير الرعب والتوجس من دور السياسيين في إدارة شؤون الناس، كما يؤشر إلى أن الانقسام الكياني والسياسي انتشر في سائر الجسد الفلسطيني انتشار الورم الخبيث الذي يستحيل علاجه مهما بذل من جهد. فمنذ وقوع الانقسام عبر الانقلاب، بدا واضحا أن خلية سرطانية صغيرة انبثقت في جزء من الجسد الفلسطيني، وكان منطقيًا أن تعالج هذه الخلية في حينه، ويقال طبيا إن علاج الخلايا السرطانية في بدايتها يؤدي غالبا إلى نتائج حاسمة، إلا أن ما تم اتباعه في أمر المعالجة كان بائسا وعديم الفاعلية، تماما كعلاج السرطان بحبات من الأسبرين.
ولا أخالنا بحاجة إلى سرد الكوارث التي نجمت عن الانقسام، والطريقة الساذجة في التصدي لها، إلا أن ما يحزن حقا، ويخالف كل التقاليد الأخلاقية والإنسانية، توظيف الكوارث لخدمة الأجندات، وليس استنباط الطرق لتطويق الكوارث وإنهائها.
وحين يصل العداء والاقتتال المعنوي إلى هذا العمق، فما الذي نطلبه من العالم بعد ذلك؟ وما الذي نحاجج به إسرائيل على جرائمها؟ وبأي منطق نراهن على عطف العالم ودعمه بينما الحال على ما هي عليه داخل البيت وفي قلب العائلة؟ ويحضرني هنا مقارنة بسيطة بين ما كان قبل الانقسام وما صار بعده، ولا بأس من التذكير، فقد تنفع الذكرى.
قبل الانقسام، كانت أبواب مصر مفتوحة على مصاريعها، ولم يحدث أن أغلقت يوما على مدار السنة، وكانت بوابة إيريز الإسرائيلية مفتوحة بدرجة أقل، إلا أنها كانت مفتوحة، أما حركة البضائع من وإلى غزة، فقد كانت منتظمة، رغم الهزات الكثيرة التي كانت تتعرض لها العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية.
أما الآن، فكل الحقائق التي كانت تحولت إلى سراب، ذلك أن جيلا، أو أكثر، من أهل غزة لا يعرف ما وراء الحاجزين وشاطئ البحر، وحين يسمح بعبور العشرات لأسباب إنسانية، يجري الاحتفال بهذا السماح كما لو أنه عيد وطني، وهذا الأمر لو كان لمجرد أيام قليلة، أو حتى أسابيع أو أشهر، لقلنا إن خيار المقاومة يستحق ثمنا كهذا، أما أن يصبح ذلك هو قانون الحياة في غزة، ولمدة عشر سنوات خلت، ولا أحد يعرف كم عشرة ستأتي، فهذه هي المأساة الثانية بعد المأساة الجذر التي سنحيي ذكراها بعد أربعة أيام.
ليس الأطفال الثلاثة وحدهم ما يمزق القلب، بل استمرار التحكم بالمصير الفلسطيني، وبهذه الطريقة.

نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني