لا أعرف لماذا يختار جيش الاحتلال الإسرائيلي مواقع إقاماته في مناطق لم تُعدّها الطبيعة مساكنَ لترتاح في جنباتها البنادق والخوذات بين غزوة ونزوة؛ أعرف أن بعض تلك المعسكرات والثكنات والسجون ورثها المحتل قبل خمسين عامًا، مما خلّفته جيوش الإنكليز ومن سبقوهم من غزاة، والأخرى مجرد بعزقة (تبذير) محتل لما غنمت يمناه من أرض وعرض وفل ورمل وشجر.
أصل إلى معسكر عوفر، أو كما نسميه نحن العرب على اسم البلدة الفلسطينية المجاورة له من الشمال بمعسكر "بيتونيا"؛ وكما في كل مرّة أجيء إلى هناك، إمّا لزيارة السجن الذي يقبع فيه ألف أسير حرية فلسطيني، أو لحضور جلسة في إحدى قاعات المحكمة العسكرية الثماني، أفقد شهيّتي للابتسام والضجر. أحس بصدري ينكمش وخاصرتي تأكلها النار، فأتقدم كطيف وأخشى على زائدتي الدودية من الانفجار.
أدخل من البوابة الجنوبية المعدّة لحملة بطاقات الهوية الزرقاء، وبعدها إلى البوابة الثانية فالثالثة والرابعة حتى السابعة. طريقي مسارب تشبه تلك التي يستعملها رعاة البقر ساعة يعيدون، بعد يوم استكلاء طويل، قطعانهم الكبيرة إلى الزرائب.
على يسار تلك البوابة ترقد ساحة حليقة الرأس محاطة بالأسلاك والباطون الباهت، وفيها عدد من المقاعد الخشبية التي يتكدس عليها وحولها العشرات من أهالي الأسرى، الذين جاءوا لحضور محاكمات أبنائهم وأقاربهم. بعضهم ترك بيته منذ ساعات الفجر الأولى كي يضمنوا وصولهم إلى حاجز بيتونيا في التاسعة صباحا. فمنه، بعد انتظار، سينقلون على دفعات ليتولى حرّاس السجون إدخالهم إلى حيّز المحكمة، في البداية إلى غرف صغيرة حيث يفتشون بدقة وتدقيق، ومن هناك بهرولة إلى ساحة أخرى محاطة، هي أيضا، بأسلاك وبوابات وباطون كالح، ومن ثم لوجبة انتظار جديد إلى أن تُنادى أسماؤهم لدخول إحدى قاعات المحكمة، أزواجا أزواجا، فليس من المسموح دخول أكثر من اثنين عن كل عائلة.
بعد وصولي غرفة صقر، ضابط المحكمة المسؤول عن جلسات أوامر الاعتقال الإداري، فهمت أنني سأنتظر، لأن القاضي الذي سينظر في قضيتي قد تأخر، ولا شيء نفعله، أنا وموكلي المسجون إداريا، الفيزيائي عماد البرغوثي، إلا أن نلوك الصبر.
في الساحة التي تتوسط مباني المحكمة الإسمنتية حركة نشيطة لمجندات وجنود وقضاة ومدعين عسكريين، وكلهم يندفعون، كالكناغر بتقافز خفيف، وعلى وجوههم قسمات من زهو وراحة، وبعضهم كان يبتسم ويضحك، ويدخلون إلى قاعة اجتماعات قريبة، حيث كانوا يقيمون احتفالا متواضعا، كما فهمنا بعد لحظات، لذكرى من مات منهم في حروبهم مع العرب وفي مناسبة يوم استقلال إسرائيل الثامن والستين. تجّمعنا، نحن المحامين الفلسطينيين، في زاوية قريبة من هناك، بعضنا يمج على سيكارته بهدوء رتيب وآخرون يشاركون في الحديث مع فناجين قهوتهم العربية التي أعدّوها في غرفة خصصت للمحامين، وجزء استسلموا لأشعة شمس رحومة نزلت علينا بعذوبة، وكأنها تتذكر وتذكّرنا بتلك الهضاب التي نقف عليها، حين كانت عذراء وحافية من بساطير الجنود وخالية من دموع الأمهات تبكي أكبادها. حديثنا بطبيعة الحال، كان عن تلك التي صارت في الثامنة والستين، فالبعض أصر أنها معجزة التاريخ الحديث، وآخرون حسموا على أنها طفرة عابرة لا محالة. احتدم النقاش، وكان يهدأ كلما عصف صوت التصفيق المنفلت من قاعة الاحتفال بآذاننا، فكنا نسكت ونصفن.
لم أشارك بشكل فعّال ومتواصل في تلك المقارعة، لانني كنت في ضيق من وقتي، وأتابع مع صقر موضوع جلسة الدكتور عماد البرغوثي، الذي تطالب النيابة العسكرية المحكمة بتثبيت أمر اعتقاله إداريا لثلاثة أشهر كاملة، فعلي أن أنهي تلك الجلسة وأذهب بعدها مباشرة إلى المحكمة العليا التي ستستمع إليّ في قضية الأسير الإداري سامي جنازرة المضرب عن الطعام.
كان فهد، زميلي، يقص علينا كيف ولماذا يرى بإسرائيل معجزة، قالها بحزن وبنبرة منكسر نكبوية، وقد عاد بنا إلى حيث كانت العبرية لغة ميّتة وأحياها اليهود، في خطوة لم تعرف مثلها البشرية في العصور الحديثة، لأن اللغات البشرية تموت بالعادة وليس بالعكس، وأضاف كيف انتصرت جيوش صهيون على جيوش العرب، مرّة ومثنى وثلاث، وأقاموا دولةً عظمى بقوتها العسكرية والاقتصادية والثقافية وبإمكانيات تأثيرها على كثير من دول العالم، وفي مقدمتها الدول العربية، فأين هي الجامعة العربية اليوم، وأين منظمة العمل الإسلامية و.. لم يعط نمر الفرصة لزميله كي ينهي فكرته، فانتزع، كالملقط، بإصبعيه عود سيجارته من بين شفتيه، وبحركة بهلوانية ألقاه على الارض، وبدأ، بمقدمة حذائه المغبر، يمعسه. كان ينظر، بوجه أحمر خالطته زرقة، كيف تتحرك قدمه بنصف دائرة وهي تمحق السيجارة بشدة. لم يرفع عينيه تجاهنا بل أطلق حُكمه وبصرخة قال: إسرائيل إلى زوال لا أعرف كيف ومتى، ولكن أعرف أن الرب والملائكة معنا وهم كفيلون بذلك.
ناداني صقر مبشرا أن عمادا ينتظرني في القاعة وأن القاضي وصل، وعاصم، المدعي العسكري المناوب، في طريقه إلى القاعة. قبل أن أبتعد عنهم، وباستفزاز دعابي سألت النمر: إذا كان الله والملائكة معنا فمن مع إسرائيل؟ وهل تعرفون ما هي الشعارات الثلاثة التي تزيّن قاعة الاجتماعات الرئيسية للجامعة العربية في القاهرة؟ لم أسمع ردودهم لانني دخلت القاعة حيث كان عماد الفيزيائي ينتظرني بساعدين مفتوحين كالأمل وبصدر يندف صدقًا وحياءً وحياة.
ببضع جمل ببغائية طلب عاصم من القاضي أن يثبت أمر الاعتقال الإداري لمدة ثلاثة شهور. لم يخبرنا بأي جرم يسجن البرغوثي، ولا كيف ولماذا يشكل هو خطرا على العامة، وبدل ذلك اكتفى المدعي بتقديم ملف سري لعناية القاضي فقط.
كان عماد يجلس في وسط القاعة بوجه مرتاح، يشبه وجوه البراغثة: صفحة شهباء مدوّرة ببيضاوية طفيفة تعلوها حمرة خوخية كحمرة الخجل، تصير قانية كلّما فاض قلبه حبا ووجدا، شعر خفيف بلون الخروب اليانع تصاحبه صفرة خيط شمس نام في المفارق والعيون. نظرت إليه وكان كما رأيته قبل أكثر من عام حين اعتقلوه وادعوا، كما في هذه المرّة، أنه خطير لأنه يحرض ويكتب ضد الاحتلال. لم ينكر عماد كرهه للاحتلال وعبّر عن إصراره على وجوب زواله. في حينه قبل القاضي دفاعي وقرر الإفراج عنه بعد أن قضى شهرين في السجن، فكرهُ الاحتلال لا يشكّل جرما، لاسيما وعماد يشهد أنه فلسطيني فخور وفيزيائي أكاديمي يقيم علاقات إنسانية وعلمية واسعة مع زملائه في العالم وفي إسرائيل.
سمعني القاضي واستلم مني عريضة وقعها عشرات الفيزيائيين والفلكيين في العالم الذين يشجبون فيها إعادة اعتقال عماد، ويطالبون بضرورة الإفراج الفوري عنه. "لن تجد شيئًا في ذلك الملف اللعين، فعماد رجل يصرّح بما يؤمن، وهو يعيش باستقامة أمام عقله وضميره ومتصالح مع كرامته وعزته، ولذلك تراه يكتب ضد الاحتلال علنًا ولا يعمل في السر أكثر مما يجاهر فيه على الملأ، أفرجوا عنه فاعتقاله وصمة عار على جبينكم". قلت للقاضي بصوت أعلى من صراخ زملائي الذين ما زالوا يتساجلون في الساحة، ومن صوت تصفيق المحتفلين في القاعة القريبة منا.
لم يطل عماد حديثه بعدي، فوقف، كما يقف الحق، هامة كالرمح، عينان كنجمتين، ووجنتان يغطيهما الورد، والصدر مندفع أمامه كالترس، وقال: "لن أضيف على ما قاله صديقي المحامي جواد، لكنني أود أن أؤكد أنني كفلسطيني لا أضمر الشر لأحد ولا المضرة ولا الأذى، لكنني أكره الاحتلال وأقف ضده وسأبقى هكذا إلى أن يزول عنا ونعيش بسلام كباقي الأمم".
وأنا في طريقي لمغادرة ساحة المحكمة، وبجانبي صقر وأمامنا عاصم، لمحني زميلي ميشيل فأوقفني وأصر، باسم الزملاء الذين ما زالوا متحلقين هناك، أن أجيب على سؤاليّ اللذين أطلقتهما في الجو واختفيت، فقلت: على يمين صدر جامعتهم المفكّكة كتبت العرب: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" وعلى اليسار استنخبوا وكتبوا: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، أما في الوسط فاختاروا الأهم والأعظم وكتبوا: "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". سمعني زملائي، فصمتوا، فوجموا، فضحكوا، فبكوا، فبلّموا، وانتظروا إفادتي حول مَن مع إسرائيل إذا كان الله والملائكة معنا نحن العرب، لكنني بدعابة واخزة جديدة أردفت وقلت لهم: اتركوا شيئًا لاحتفالات المئوية الأولى المقبلة، فإسرائيل اختارت بعض مواقع جيوشها في الأماكن الأجمل لانها جاءت إليكم في عام نكسة لتبقى وتتجبر؛ والآن عليّ أن أصل إلى المحكمة العليا كي أدافع عن فارس حرية مهيضة آخر اسمه سامي الجنازرة، وعنه سوف أحدّثكم فيما سيتبع..
جواد بولس
٭ كاتب فلسطيني