كنت أتصفح "هآرتس" في نسختها الالكترونية باللغة الانكليزية، عندما فوجئت بأن الصحيفة الاسرائيلية الليبرالية تضع تاريخين ليوم صدورها. كان ذلك صباح الأحد 15 أيار/ مايو 2016، وجدت التاريخ الميلادي المعتمد في كل أنحاء العالم، وتحته كتب التاريخ اليهودي، فإذا بنا في 7 أيار/ مايو سنة 5776. واكتشفت أن هذا هو دأب المطبوعات الصحفية الاسرائيلية منذ تأسيس الدولة. فإسرائيل تتعامل مع التقويم العبري بصفته تقويماً رسمياً وتعتمده في جميع أعيادها ما عدا عيد العمال في الأول من أيار/مايو، الذي صارعيداً هامشياً في الدولة العبرية.
الحقيقة ان تاريخ صدور الصحيفة لفتني لأنني كنت أبحث عن سرّ احتفال الدولة بعيد "استقلالها" الذي هو ذكرى نكبة الفلسطينيين في تاريخ مختلف عن يوم 15 ايار/مايو، الذي حُفر في الذاكرتين الفلسطينية والعربية بصفته يوم الكارثة. اسرائيل تنقل نكبتنا من السنة الشمسية المعتمدة في جميع أنحاء العالم إلى سنتها القمرية – الشمسية التي ضبطها ابن ميمون في القرن الثاني عشر. يبدأ التقويم العبري بخلق العالم منذ 5776 عاماً. وعلى الرغم من إجماع العلماء على أن هذا الافتراض مجرد اسطورة دينية لا أساس لها من الصحة، فإن "أبناء عمنا" من متدينين وعلمانيين يصرون على إستخدام التقويم العبري في أعيادهم. العيد الرسمي الوحيد غير الديني، "عيد الاستقلال"، أُدرج في التقويم العبري ما يعطيه طابعاً دينياً، ويسمح باستخدام عبارة "الهيكل الثالث"، عند الكلام عن الدولة التي أسستها الحركة الصهيونية، وهي دولة أنشأها علمانيون وملحدون، في سياق مشروع كولونيالي جعل من الدين اليهودي مطيّته.
في السنة العبرية هناك سنة كبيسة تأتي مرة كل ثلاث أو أربع سنوات، وفيها يضاف شهر جديد باسم آذار/ مارس1، من أجل إلحاق التقويم القمري بالتقويم الشمسي، كما أن أسماء الأشهر العبرية هي أسماء آكادية، كانت تستخدم في بلاد ما بين النهرين. وقد دخلت أسماء الأشهر الآكادية – البابلية في اللغة الآرامية، ولا تزال هذه الأسماء الآرامية مستخدمة في بلاد الشام.
السؤال هو لماذا اعتمد بن غوريون التقويم العبري من أجل الاحتفال بعيد "الاستقلال"؟ هل كان ذلك جزءاً من الصفقة التي أبرمها مع التيارات اليهودية الدينية من أجل اكتساب ولائها للدولة؟ فقد وافق حزب "المابام" الذي سيتحول لاحقاً إلى حزب "العمل"، على صفقة مع المتدينين تتضمن إعفاء الحريديين من الخدمة العسكرية ويوم السبت كيوم العطلة ومنحهم حق الإشراف على "الكوشير" أو الحلال، وجعل الأحوال الشخصية في عهدة المؤسسة الحاخامية. هل كان اعتماد التقويم العبري للعيد جزءاً من هذه الصفقة، أم أنه جاء بطريقة تلقائية، في حمى التمثّل بأنبياء اسرائيل الذي نجده في متن "إعلان الاستقلال"؟
ما يهمني في هذه الأسئلة مسألتان:
المسألة الأولى تتعلق بكون ذكرى النكبة ليست ثابتة في التقويم العبري، وهي تشبه في ذلك جميع الأعياد اليهودية. ففي هذا العام احتفل الاسرائيليون بنكبة الشعب الفلسطيني يوم الخميس 12 أيار/ مايو الموافق في تقويمهم 4 أيار، بينما جرت الاحتفالات في السنوات الماضية في تواريخ أخرى مختلفة. وقد ارتأى اخواتنا واخواننا من فلسطينيي داخل الداخل القيام بأنشطة ذكرى النكبة، وأهمها مسيرة العودة إلى إحدى القرى المهجّرة في التاريخ نفسه.
أستطيع أن أتفهم الدوافع النضالية لمثل هذا الخيار، خصوصاً وأنه في ظل نظام الحكم العسكري الذي كان مفروضاً على فلسطينيي الداخل حتى عام 1967، فإن "عيد استقلال" إسرائيل كان اليوم الوحيد الذي يستطيع فيه الفلسطينيون التجول في بلادهم بحرية ومن دون الحصول على اذن من الحاكم العسكري، كما كان في استطاعتهم في هذا اليوم فقط زيارة قراهم المدمّرة. ويقدم ميشال خليفي في فيلمه الرائع "معلول تحتفل بدمارها" (1985) وثيقة نادرة عن تلك الأيام، حيث رأينا احتفال سكان قرية معلول في الجليل بدمار قريتهم في عيد "الاستقلال"، فعادوا، ولو ليوم واحد، إليها معلنين تمسكهم بالأرض.
من جهة أخرى تأسست لجنة الدفاع عن المهجرين الفلسطينيين في وطنهم، والذي يبلغ عددهم 300 ألف نسمة داخل أراضي 1948، وقد بدأت اللجنة سنة 1997 بتنظيم مسيرة العودة الجماهيرية لقرية مهجّرة يوم عيد "الاستقلال"، محولة يوم "استقلالهم" إلى يوم نكبتنا. مسيرة العودة، في ظل العلم الفلسطيني المرفوع فوق أنقاض القرى المهدمة تحمل أكثر من دلالة، وتعبّر عن إصرار الفلسطينيات والفلسطينيين على حق العودة وعلى التمسك بهويتهم الوطنية.
اختيار يوم الاحتفال الإسرائيلي له مبرره السياسي الذي يقيم تضاداً بين احتفالين: احتفال المنتصر الذي طرد شعباً كاملاً وسحق "الأقلية الفلسطينية" التي بقيت في وطنها، واحتفال المقموع والمهزوم بنكبته التي صنعها الاسرائيليون. قد يكون لهذا التضاد فائدة سياسية، لكنني أميل إلى الاعتقاد بأن هذا التطابق فقد مبرره. فالتقويم الفلسطيني هو التقويم الغريغوري المعتمد في أغلبية دول العالم، ويجب أن يقف كل الفلسطينيين، اينما وجدوا، في هذا اليوم، لإحياء ذكرى نكبتهم، وتأكيد موعد الشعب الفلسطيني مع حريته وحقه في العودة. ان توحيد ذكرى النكبة في الداخل والضفة الغربية وغزة والشتات صار ضرورياً كتأكيد لوحدة الشعب الفلسطيني، وكإعلان برفض التقويم العبري لأنه يشكل جزءاً من انتهاك تاريخ فلسطين. الخروج من التأريخ الاسرائيلي صار اليوم ممكناً وضروريا، ً وعلى الاسرائيليين أن يروا ويستوعبوا أنه لا يحق لهم تحديد تاريخ النكبة، مثلما لا يحق لهم طرد الشعب الفلسطيني وامتهانه وبناء المستعمرات على أرضه المنهوبة.
والمسألة الثانية تتعلق بالدلالات العميقة لاعتماد التقويم العبري الديني في عيد يشكل بالنسبة ليهود اسرائيل بداية تاريخ دهري صنعته القوة المتحالفة مع المشاريع الكولونيالية الأوروبية ولا علاقة له بالدين والارادة الالهية.
هنا يقع أحد البذور المسيانية التي زرعها الصهاينة من أجل خداع اليهود واقناعهم بالهجرة إلى فلسطين، وقد نمت هذه البذور بسرعة وخصوصاً بعد حرب حزيران/يونيو 1967، حين اتخذ الانتصار الاسرائيلي شكلاً أُخروياً ودينياً، وقاد إلى بداية وصول التيار القومي – الديني إلى قيادة الدولة بعدما كان في الماضي مجرد مطيّتها.
قد يُقال ان العرب يملكون أيضاً تقويمهم الاسلامي، الذي هو التقويم الهجري، وهذا صحيح. لكن التقويم الهجري، وهو تقويم قمري، يستخدم فقط في الأعياد الدينية، واسماء أشهر هذا التقويم لا تستخدم إلا في المناسبات الدينية المرتبطة بها. لكن لا يوجد بين العرب من يحتفل بعيد استقلال وطنه بحسب التقويم الهجري. حتى حرب تشرين/ اكتوبر، التي حاول البعض اطلاق اسم حرب رمضان عليها كمعارضة لعبارة "يوم كيبور" التي أطلقها الاسرائيليون، بقيت في الذاكرة تحت اسمها العلماني.
الجميع يتهم العرب والمسلمين بالأصولية الدينية، صحيح أن هناك تيارات أصولية نمت على ضفاف الهزيمة الحزيرانية وتحولت إلى قوى فعلية في سياق الحرب الباردة وتحت الرعاية الأمريكية – السعودية، وهي اليوم جزء من كارثة سورية في مقاومة شعبها للإستبداد، لكن لم يقم أحد في العالم العربي باللعب بالرمز الوطني وتحويله إلى رمز ديني مثلما فعلت وتفعل اسرائيل باستثناءات قليلة في بعض "مدن الملح".
اللعب الصهيوني بالرمز الديني أوصل المشروع إلى لحظته الفاشية الراهنة. فالمسألة ليست تفصيلاً، رغم أن التفاصيل تعبّر عن الحقيقة في الكثير من الأحيان، انه جزء من مقامرة القلعة الأخيرة للاستعمار الاستيطاني في العالم، وهي مغامرة، رغم نجاحها، تحمل بذور الفشل والكارثة.
الياس خوري/ القدس العربي