النكبة.. بين تمثال مانديلا وزعامات فلسطين التقليدية!

بقلم: إبراهيم نصر الله

 كنت وأحد الأصدقاء، نتأمل تمثال نيلسون مانديلا في مدينة رام الله، الذي كان هدية فائقة الجمال للمدينة بمناسبة تآخيها مع مدينة جوهانسبورغ. يبلغ طول التمثال ستة أمتار، وهو في غاية الإتقان؛ وقد تحفظ الإسرائيليون كثيراً عليه، واعتقلوه، مثل أي شخص مُحب لفلسطين قادم للتضامن معها، قبل أن يسمحوا أخيرا بوصوله إلى رام الله، بما يعنيه ذلك الاعتقال من دلالات رمزية تقلق دولة الكيان الصهيوني، التي لم، ولن تبلغ سنّ الرّشد، حتى وهي تبلغ الثامنة والستين من عمرها غير المديد، هذه الدولة التي ستبقى كل القيم الإنسانية، وعلى رأسها الحرية، في قائمة المطلوبين للتصفية على يد جيشها واستخباراتها وقادتها.
حين أفصح صاحبي، فهمت أن لديه توقاً كبيراً لوجود مِثال فلسطيني مبدئي، يقود فلسطين في لحظتها الراهنة، نحو غدها الأجمل الذي تستحقه.
في ذكرى النكبة نستعيد حديثاً مع الصحافيين كان أحد المسؤولين الفلسطينيين يتحدث فيه عن الفساد، وحين سأله أحد الصحافيين الجريئين: ولكنك جزء من هذا الفساد؟! ردّ: هكذا شعب، يستحق هكذا سلطة!
لكن شعبنا ليس كذلك، ولم تستمر قضيته حيّة لأنه كان يشبه زعماءه التقليديين، ولا نقول قياداته السياسية، بل استمرت قضيته حية لأنه لم يشبه زعماءه هؤلاء، ولم يقبل بأن يكون شبيهاً لهم، وهذا الأمر ينطبق على مسيرته كلها، منذ بدايات القرن الماضي، بل وقبل ذلك؛ فحين كان يقاتل في الجبال، ويثور في المدن ويعلن العصيان في وجه كل محتل وغازٍ، لم يكن هناك من هاجس لدى زعاماته التقليدية، ومعها العربية، سوى: كيف يروّضون الثورات، لكي تصبح تحت آباطهم، وكيف يستثمرونها في صفقات لا تنتهي، لكي يبقوا فوق كراسي هذه الزعامة، ضد زعامة، أو زعامات أُخرى، ولم يخشوا الاستعمار والهجمة الصهيونية بقدر ما كانوا يخشون نجاح ثورات شعبهم؛ وهذه ظاهرة من ظواهر وجود النكبة، وظاهرة من ظواهر استمرارها حتى هذه اللحظة.
تبدو النكبة مستمرة لأن كل قيادة سياسية ثورية لا بدّ أن تتحول في النهاية إلى زعامة تقليدية في ظل انعدام الديمقراطية وانفتاح الأبواب أمام الأجيال الشابة لممارسة دورها، وهذه من الآفات التي لم يُصب بها ثائر كبير مثل مانديلا، فقد بدأ ثورياً، وعاش ثورياً، ومات ثورياً بعد أن أوصل بلاده إلى سماء حريتها، وبذلك استحق صفة الرمز في كل مكان من هذا العالم، وما يزال، بعد رحيله؛ إذ لم يكن الموت في أي يوم من الأيام نهاية أي إنسان حرّ، بل سنجد أن شهداءنا عاشوا رغم موتهم، مثلما سنجد أيضا أن هناك الكثيرين ماتوا رغم استمرار حياتهم.
تبدو النكبة مستمرة في زعامات تقليدية مستميتة لمواصلة التعاون مع قوات الاحتلال، ومطاردة واعتقال كل من يقاتل هذا الاحتلال، ولو بأبسط الوسائل، وتدمير عقول وذاكرة الأجيال الجديدة وهم يلعبون دور أطفال المماحي وأدواتها، إذ يبدو التذلل والاستسلام، من أجل استمرارها، هو السمة الأوضح والأفضح لها.
يتساءل المرء كم من سلطة في هذا الكون، أو قيادة، في العالم، فعلت ذلك حين كانت أوطانها تحت الاحتلال؟
صحيح أن كل الغزاة يسعون لتشكيل سلطات هزيلة تابعة، وعميلة، ولكن من العيب أن يتواصل إطلاق صفة (السلطة الوطنية) على سلطة رام الله، لأن الوطن ومصالح الوطن، ومستقبل الوطن، أمور خارج حساباتها، وهم ليسوا أكثر من عدادات متهرئة يتواصل على واجهاتها توالي عدد سنوات النكبة، لا كل عام فقط، بل كل يوم.
وتبدو النكبة مستمرة بانشراخ الحالة السياسية الفلسطينية، باعتبار (وكلٌ بما لديهم فرحون)، وتحوُّل قيادات الأمس السياسية إلى زعامات تقليدية، لا يمكن السماح لأحد بأن يمسها بقول أو سواه، وهذا نموذج مواز للزعامات التقليدية العربية، التي هي سبب من أسباب استمرار النكبة ووجودها، هذه الزعامات التي باتت محصّنة تماماً، بل حوّلت نفسها إلى كائنات مقدسة لا يسمح بالاقتراب منها من قريب أو بعيد، وكأن كل سنة في الحكم تزيد من سماكة وقدسية الدرع التي تحتمي به.
والنكبة مستمرة بترهّل التنظيمات، وذوبانها المتواصل في رمال أوسلو المتحركة، وفقدانها لمعنى وجودها بتسارع، أو بصورة تدريجية، وعلى رموزها وقياداتها السياسية الذين لم يتحولوا بعد إلى زعامات تقليدية، أن يتداركوا الوضع، قبل انفلاته تماماً، إذ يبدو المستقبل، الذي رسمته بوضوح ثورة السكاكين، أن الشباب بات خارج عباءات التنظيمات، يسارها ويمينها، وبقدر ما في هذا التمرد من دلالات، بقدر ما يضمر من مخاوف، إذ لا بدّ من إطارات مرجعية حقيقية تستطيع في النهاية أن تنسق حمم البركان، وتقودها إلى هدفها.
النكبة مستمرة، لكننا على ثقة بأن هذا الشعب الذي يبتكر وسائل جديدة لمحو آثار النكبة، بوعي، وبقوة، ويعمل على ترسيخ الجمال الفلسطيني في الذاكرة، قادر على أن يغير المشهد.
هذا الشعب الذي لم يمت كباره، ولم ينسَ صغاره، كما بشَّر الزعيم الصهيوني قبل ثمانية وستين عاماً، يوم مولد هذا الكيان، لأن ثمة هزيمة أخرى تتواصل بقوة هذا الشعب، هي هزيمة الكيان الصهيوني الذي لم يستطع أن يحسم، بكل معاركه وسجونه وقواته، المعركةَ، ليضع نقطة في آخر السطر معلناً انتصاره النهائي. فالشعب الفلسطيني، إذا ما استعرنا لغة الملاكمة، لم يُهزم بالضربة التي كان من المفترض أن تكون قاضية، ونعني النكبة، وبعدها النكسة! ولم يهزم بالنقاط، أو بالضربات الأخرى، سواء تلك التي وجهها إليه أعداؤه، أو إخوته.
ورغم كل ما نعيشه، من واقع استمرار النكبة، إلا أن ثمة ظاهرة فريدة يمتلكها هذا الشعب، وهي أن قياداته الحقيقية اليوم، التي تلعب دور ضميره وبوصلته، هي في كل بيت لديه أسرى في سجون العنصرية الصهيونية، وفي كل بيت له شهداؤه في مقابر قرانا ومدننا أو المقابر المجهولة، وفي كل بيت فيه أمهات وآباء، أبناء وبنات، جرحى، ومحاصرون ما زالوا مصرّين على بناء البيوت، وهم يعرفون أنها يمكن أن تهدم، ومازالوا مصرّين على الذهاب إلى مدارسهم وحقولهم، مع أنهم يعرفون أنهم قد لا يعودون لأسِرَّتهم أحياء، هؤلاء الأحياء الأحياء الذين ما بدلوا تبديلاً.
وبعد:
هذه أرضنا..
وسنكتب ما يكتب الشهداءُ
على البحرِ والفَجرِ: نحنُ هنا.

 إبراهيم نصر الله