لماذا تحرص باريس على إرضاء تل أبيب على حساب الفلسطينيين، ولماذا تحرص على نيل البركة الأميركية المسبقة قبل إطلاق مبادرتها؟!
■ لا ندري ما هي المشاعر التي إجتاحت القيادة المتنفذة في "المقاطعة"، أو مقر وزارة الخارجية في رام الله، وما هي التعليقات التي تداولها "المطبخ السياسي" الفلسطيني حين تبلغ القرار الفرنسي بتأجيل إجتماع وزراء الخارجية نهاية هذا الشهر، تحضيراً لمؤتمر ستطلق عنه "المبادرة الفرنسية" لإستئناف المفاوضات الثنائية مع إسرائيل.
أهمية هذا السؤال تنبع من إدراكنا لمدى الإهتمام الذي أبدته رام الله في رهانها على "المبادرة الفرنسية"، حتى أنها أدرجتها في حساباتها الإستراتيجية لإستئناف المفاوضات مع إسرائيل، وذهبت بعيداً في الترحيب بها، حتى قبل أن يتم الإعلان والكشف عن عناصرها، ومحتواها، وآلياتها المقترحة لعقد ما سمي بالمؤتمر الدولي [خارج رعاية الأمم المتحدة]، وما سيتمخض عنه من توجهات.
القيادة المتنفذة، في رهانها على المبادرة الفرنسية قدمت، كما هو مؤكد، تنازلات مسبقة للجانب الفرنسي بذريعة تسهيل مهمته. فعدا عن ترحيبها المبالغ به بالمبادرة حتى قبل الإعلان عنها، عملت "بنصيحة" باريس، وأجلت حتى إشعار آخر، شكواها لمجلس الأمن عن الإستيطان. وهي بذلك تكون قد عطلت قرار المجلس المركزي في دورته الـ 27 بتدويل قضية الإستيطان، لصالح المبادرة الفرنسية. كذلك جمدت تحركاتها الدبلوماسية العملية نحو محكمة الجنايات الدولية، ونحو محكمة لاهاي، ونحو مجلس الأمن، بذريعة عدم التشويش على التحرك الفرنسي. لذلك مازالت معلقة الدعوة لمجلس الأمن لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني وأرضه في مواجهة الإحتلال والإستيطان. ومؤجلة الدعاوي والشكاوي ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين، رغم تواصل العقوبات الإسرائيلية الجماعية ضد الفلسطينيين، وتواصل سياسة الإعدامات في وضح النهار للشباب الفلسطيني بدم بارد، وتواصل سياسة الإعتقالات الجماعية تحت مسمى "الإعتقال الإداري" المنافي للقوانين والأعراف والمواثيق الدولية.
***
الجانب الفرنسي أعلن تأجيل إجتماع وزراء الخارجية العشرين تحضيراً لمؤتمره الدولي حتى الصيف، دون أن يحدد موعداً ثانياً لهذا التأجيل. والسبب، كما أوضحت باريس ـــــوالعهدة على من أوضح ــــــ أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، لا يملك الوقت (الآن) لحضور هذا الإجتماع، وأن التأجيل تم بناء لطلبه.
نحن لا ندري، فيما إذا كان التأجيل قد تم، حقاً، لهذا السبب، أم لسبب آخر، خاصة وأن واشنطن لم تعلن حتى الآن تأييدها للمبادرة الفرنسية، مدعية أنها مازالت تدرسها، وتتباحث بشأنها مع باريس.
وهذا ما يدعونا للتشكيك في مسألة التأجيل وأسبابه. إذ لا نعتقد أن باريس حددت الموعد [ نهاية هذا الشهر] دون أن تجري مشاورات مع العواصم المعنية، ودون أن تتأكد أن الموعد يناسب الجميع، بمن في ذلك الطرف
الذي بات واضحاً أنه المدعو الرئيسي، أي جون كيري. ولا نعتقد أن باريس حددت الموعد دون أن تكون قد أنهت التحضيرات اللوجستية والإدارية، والسياسية بما في ذلك تحضير الأوراق والأفكار والإقتراحات التي ستقدم إلى وزراء الخارجية. فضلاً عن ذلك كان واضحاً، من تحركات الدبلوماسية الفرنسية، والتي قادها هذه المرة الرئيس الفرنسي شخصياً، أن الأمور تسير كما يجب وأن الإجتماع سوف يعقد في موعده. فجأة جاء القرار بالتأجيل بذريعة إتاحة الفرصة لكيرى كي يحضر. ولكن دون أن يتحدد موعد بديل، ما يعني أن باريس لم ترد هذه المرة أن تتقيد بموعد معين، كما فعلت في المرة السابقة، ولم ترد أن تبدو إجراءاتها رهناً بالموقف الأميركي، لذلك جاء التأجيل مفتوحاً على الزمن، [حتى الصيف القادم]، دون أن يعني هذا أن هذا التأجيل سيكون هو التأجيل الأخير، أو أن الإجتماع سيعقد حقاً في الصيف القادم. هذه المناورة الفرنسية تكشف لنا الشيء الكثير، أهم ما تكشفه أن باريس [ولعل أوروبا كلها]، لا تستطيع السير في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، إلا بشرطين: الأول موافقة إسرائيل نفسها، والثاني مصادقة واشنطن على الموافقة الإسرائيلية. المشروع الفرنسي لقي منذ اللحظة الأولى للإعلان عنه معارضة إسرائيلية. رغم أن باريس حاولت أن تسترضي تل أبيب بعدد من التعديلات والمواقف السياسية. تراجعت عن وعدها بالإعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فشلت المفاوضات، بناء لطلب إسرائيل. تراجعت عن رسم سقف زمني للمفاوضات، أيضاً بناء لطلب إسرائيل، التي إعتبرت السقف الزمني "شرطاً مسبقاً" وهي (أي تل أبيب) تريد "مفاوضات بلا شروط مسبقة". أكدت باريس تأييدها لإسرائيل "دولة يهودية". أكدت باريس تأييدها "للقدس عاصمة لدولتين [أي الحل الأميركي لقضية القدس] أكدت باريس موافقتها على مبدأ تبادل الأرض [ أي ضم المستوطنات لإسرائيل]. وأخيراً، وليس آخراً، اعتذرت باريس لدى تل أبيب، عن القرار الذي إتخذه اليونيسكو بشأن القدس، وأكدت إعترافها بالتسمية التوراتية لمنطقة الحرم [جبل الهيكل]، في موقف فرنسي، هدفه التقرب أكثر فأكثر من تل أبيب وإغراءها بالموافقة على المبادرة الفرنسية، وفي إطار تسديد دفعة مقدماً [ في سلسلة الدفعات السابقة] ودوماً على حساب الحقوق والمصالح الفلسطينية.
***
إذن، المبادرة الفرنسية، لا تستطيع أن تحلق إلا بجناحين. الأول إسرائيلي، والثاني أميركي. هذا ما أكدته التجربة حتى الآن. كل هذه التنازلات الفرنسية لصالح إسرائيل جاءت حتى قبل أن ينعقد أول إجتماع رسمي لبحث عناصر المبادرة، ما يدعونا للسؤال:
• لماذا تقيم باريس وزناً للرأي الإسرائيلي، فتعدل هنا، وتعيد صياغة عبارة هناك، وتعتذر هنا، وتحاول التقرب في موقف سياسي هناك، ولا تقيم هذا الوزن للجانب الفلسطيني المفاوض.
• لماذا لا تستطيع باريس أن تطلق مبادرة بشأن المنطقة إلا بموافقة ورضى الولايات المتحدة، وإلى أي مدى سيذهب التوافق الفرنسي مع التوافق الأميركي بشأن آليات المفاوضات الجديدة. هل ستغير واشنطن جلدها لأجل خاطر الفلسطينيين، أم لأجل خاطر الفرنسيين أم أنها ستبقى على ثباتها على موقفها المنحاز للجانب الإسرائيلي.
• السؤال الأخير [ وهو ليس آخر سؤال قد يتبادر إلى الذهن في مراجعة التحرك الفرنسي]. هل سنكون أمام مبادرة فرنسية حقاً؟ أم أننا سنكون أمام مبادرة فرنسية ــــ أميركية، تغلب عليها اللكنة الأميركية، وتتناثر بين
عباراتها بعض الكلمات العبرية. ولماذا يا ترى، تشغل باريس نفسها بإطلاق مبادرة لإستئناف المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية، وهي التي راقبت كيف فشلت "دولة عظمى" هي الولايات المتحدة في الوصول بالمفاوضات إلى النجاح المطلوب. وكيف إعترف الرئيس أوباما بخيبة أمل إزاء الجهود التي بذلها لصالح هذه القضية، وكيف إعترف كلينتون الرئيس الأسبق كيف "قتل نفسه" لصالح حل هذه القضية.
هل في جعبة باريس، ما لم يكن في جعبة واشنطن؟■
معتصم حمادة