ليس ثمة ما هو أسهل من أن ينضم المرء إلى جوقة "الهتيفة" الذين يجيدون التصفيق تارة وإيماءة الرأس المقرونة بالموافقة تارة أخرى، وليس من الصعوبة بمكان أن يلتحق بفرقة الشعراء الذين يمدحون الباب العالي علهم يحظون ببعض العطايا، وقد يكون الأسهل أن يلتزم جانب الصمت على قاعدة "إذا الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، رغم أننا دوما ما نخرج المقولة عن سياقها التي جاءت منه، لنجعل منها جسراً نعبر عليه إلى دنيا تكميم الأفواه، لكن أراني أستند على وسادة تريح الحاكم والمحكوم نسجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال للأعرابي "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها".
لا اعتقد أن هناك مسؤولاً لم تصله تفاصيل معاناة غزة، سواء كان ذلك من خلال ما يحتم عليه موقعه الوظيفي من معرفة أو من خلال الاسطوانة التي أصابها العطب من كثرة ما تم إعادة محتواها، ورغم التعاطف في أحيان كثيرة مع ما يقال إلا أن طاقة التعاطف ظلت عاجزة عن تحريك القرار من مربضه، والحقيقة التي لم تعد خافية على أحد أن الحكومة عاجزة عن معالجة الهموم التي هي من صلب عملها، ولم يعد المواطن يكترث بالتبريرات التي تسوقها الحكومة، ولا ايضاً بإلقاء تبعات ذلك على حماس لعدم تمكينها الحكومة من تولي مسؤولياتها، ما يعني المواطن في غزة أن همومه الحياتية في تعاظم، ولا يجد محاولات جادة في التعامل معها، بل أن هناك غصة من سياسة التهميش المتعلقة باحتياجات سكانه الأساسية، والأمر من ذلك سياسة التمييز التي اتسعت رقعتها.
لا شك أن الانقسام يلقي بظلاله على الكثير من همومنا، ولا نختلف ايضاً حول عدم تمكين الحكومة من القيام بمهامها في قطاع غزة يعطل التعاطي الجاد معها، ولكن بالمقابل هل يتحمل المواطن مسؤولية ذلك؟، هل المواطن هو من يقف حجر عثرة في طريق المصالحة؟، وهل مطلوب من المواطن أن يتحمل اخفاقات قياداته السياسية؟، وإلى متى يمكن له أن يعض على جراحه سيما وأن الحديث عن المصالحة لم يعد أكثر من مسكنات نلجأ إليها بين فترة وأخرى؟، وهل حقاً المصالحة تمتلك المفتاح السحري لحل مشاكله التي تراكمت في السنوات الأخيرة؟.
بيان الحكومة الاسبوعي لا يتطرق من قريب أو بعيد لهموم القطاع الجوهرية، لم يسبق للحكومة أن وضعت مجرد رؤية لحل جذري لمشكلة الكهرباء في غزة، كل ما يمكن لها الحديث عنه في هذا الجانب يتعلق بضريبة "البلو"، والحقيقة التي يعلمها الجميع أن هنالك عجز كبير في كمية الكهرباء حتى وإن عملت المحطة بكامل طاقتها، أليس من صلب عمل الحكومة أن تقدم لنا تصورها لحل هذه المعضلة؟، هل كان يمكن للحكومة أن تبقى على مقاعدها ليوم واحد في حال خضعت رام الله أو الخليل أو نابلس لبرنامج فصل الكهرباء عنها اسوة بما معمول به لسنوات في غزة؟، كيف يمكن لإجتماعات الحكومة أن تخلو من مناقشة أزمة البطالة في صفوف الخريجين وكيف يمكن لها أن تبرر وقف التوظيف لأبناء قطاع غزة منذ سنوات؟، وما الذي يمكن أن تقوله في معالجة نسبة البطالة التي تضخمت بشكل غير مسبوق؟، هل يمكن لها أن تفخر ببرنامج التشغيل المؤقت الأخير المتعلق بألفي خريج؟، يمكن لها أن تعود لأرشيف الحكومة قبل عقد من الزمان لتكتشف أن عشرات الآلاف استفادوا من برامج البطالة المختلفة.
ألم تسمع الحكومة بأن موسم العمرة الممتد لشهور عدة انتهى دون أن يتمكن أي مواطن في القطاع من السفر، ألا يستحق مئات الطلبة الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بجامعاتهم خارج الوطن من أن تبادر الحكومة لحل مشكلتهم؟، ألا يحق لنا أن نتساءل كيف نجح القطاع الخاص في استيراد الأسمنت من مصر وعجزت الحكومة عن ذلك؟، أليس من المخجل أن تتناول هيومان رايتس مسألة سفر أبناء القطاع عبر الشقيقة الأردن فيما وزارة الخارجية الفلسطينية تلتزم جانب الصمت؟، أليس في ذلك ما يدعونا للشك بأن ذلك يأتي ضمن سياستها سيما بعد ما كشفته المخاطبات بينها وبين وزارة الشؤون المدنية؟.
يطول الحديث عن جرح القطاع وغياب العلاج، والحديث في بعض جوانبه له طعم العلقم، سواء ما يتعلق منه بقضايا سبق أن اتخذ فيها قرارات وبقيت حبراً على ورق، تفريغات 2005 .. الشهداء .. الترقيات ..إلخ، أو تلك التي تحمل في تفاصيلها وجع الجغرافيا، إن سكان القطاع بحاجة لأن يتم التعامل مع همومهم بجدية بعيداً عن حديث المسكنات، بحاجة لأن تتم مداواة جراحة بقرارات ترقى لحجم تضحياته.
د. أسامه الفرا