التعايش بين الأديان كان سهلا في الماضي، ولا شك أن ثورة المعلومات الحديثة والتي تمثلت في استخدام الملايين لشبكة الإنترنت، حيث جعلت العالم أشبه بالقرية الصغيرة، وسهلت التواصل والتعارف بين البشر من شتى الجنسيات والأديان، وهذا كله يزيد من سهولة التفاهم والتعايش السلمي، والسياسة الدولية عرَّفت مصطلح التعايش السلمي على أنه قيام تعاون بين دول العالم، على أساس من التفاهم وتبادل المصالح الإقتصادية والتجارية.
إن التعاليم المسيحية متمثلة في الإنجيل، مملوءة بالتعاليم التي تلزم المسيحيين بالتعامل مع بقية أبناء الأديان الأخرى بالمحبة والتسامح، وعدم نبذ الآخر المختلف عقيدة ولونا وشكلا، وأن المحبة هي الشعار الرئيسي للدين المسيحي، والثقافة والحضارة الإسلاميتين منفتحتان على حضارات الأمم، ومتجاوبتان مع ثقافات الشعوب، وهما مؤثرتان ومتأثرتان. ومبدأ عالمية الإسلام، هو الأساس الثابت الذي تقوم عليه علاقة المسلم مع أهل الأديان السماوية.
يأمل الفلسطينيون أن يعيش العالم أجمع ما يعيشونه من حياة مليئة بالحب والسلام والإحترام والمحبة بين كافة البشر دون تمييز للدين أو الفكر او العرق أو الجنس، حيث ظهرت هذه الأدبيات جلياً في فلسطين، حيث يعد التعايش الإسلامي المسيحي في فلسطين صورة حضارية ونموذجاً إيجابياً يحتذى بها في الوطن العربي والعالم أجمعه.
خير مثال على ذلك حكاية حي "رأس الطالع بالبلدة القديمة" بمدينة غزة حيث يتزامن في هذا الحي صوت الأذان وترانيم قرع الأجراس، يتواجد في حي الطالع مسجد "كاتبة ولاية" وكنسية "الروم الأرثودوكس"، إضافة لما يجسده كل حي بالقدس فتتجاور الكنيسة والمسجد، ليكون المسلم حارس القيامة وحامل مفاتيحها.
ما شهدته عدد من الدول العربية من ثورات "الربيع" التى أطاحت بالعديد من الأنظمة، ووعدت بالنظام الديمقراطي التعددي وتعزيز كرامة الإنسان، أعطى آمالاً للأقليات الدينية العربية، كى تستعيد مكانتها ودورها فى بناء نهضة دولها.
لكن نجدها اليوم بعد وصول جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة التشريعية في أكثر من بلد عربي تعاني التخوف والتهديدات في وضع حرج لا يبشر بالتفاؤل بالمستقبل، خصوصاً بعد ما شهدته بلدان عربية تمزقت إلى أكثر من دولة أو إقليم، كما حدث في السودان، والصومال، والعراق، وسوريا التي تشهد هذه الأيام حرب أهلية فرقت النسيج الاجتماعي السوري، وأدت الى هجرة المسيحيين العرب من سوريا .
ان العنف والاضطرابات "الثورية"، ومن القوى المضادة لها، والجماعات الإسلامية السياسية على اختلافها، تميل إلى التعبئة والحشد على أساس الإنتماء الدينى والخلفية الأيديولوجية، وهو ما يؤدى إلى تمدد ثقافة الكراهية والتمييز والخوف بين مكونات المجتمعات العربية، ومحاولة نفي التعددية الدينية والمذهبية.
من هنا، بدت العمليات الثورية التى شارك فيها بعض المسيحيين المصريين، إضافة إلى أسباب جديدة للانكفاء على الذات الجماعية، والالتفاف حول البطريرك ورجال الدين، في ظل تزايد وقائع انتهاكات حرية التدين والاعتقاد، مع تراجع نسب تمثيل المسيحيين ودورهم في بناء مؤسسات النظام الجديد - سياسياً ودستورياً - وسياسات تشريع سوف تنزع نحو أسلمة التشريعات، وممارسة قيود على نمط الحياة الحديثة، وأنظمة القيم المواكبة لها، فضلاً عن الحريات الشخصية والعامة. اضافة الى عنف الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، واستهداف دور العبادة المسيحية كما في مصر (كنيستا صول وامبابة)، والعراق (كنيسة سيدة النجاة)، وتنامى المشكلات الطائفية، الأمر الذى أنتج ثقافة التمييز على مستوى المجتمع على نحو أدى إلى انقسامات رأسية على أساس الانتماء الدينى، مما دفع المسيحيين إلى العزلة أو التفكير فى الهجرة إلى الخارج.
ويتركز فى مصر أكبر تكتل مسيحي فى الوطن العربى، وكانت مشاركة المسيحيين فى الثورة على الظلم والفساد مشاركة واضحة. ولكن لم يكد يمر شهر على الثورة، حتى انفجرت العديد من الحوادث الطائفية التي فجرتها مشاعر غضب إجتماعي عنيف، مثل حوادث شرف في قرية صول، كما شهد شهر مارس من عام 2011 ثلاثة أحداث طائفية كبيرة، هدم كنيسة صول التابعة لمركز أطفيح بمحافظة الجيزة في 9 مارس، وقتل وتدمير وتخريب في المقطم في 11 مارس، وقطع أذن قبطي متهم بإدارة أعمال منافية للآداب في محافظة قنا في 24 مارس.
أما مسيحيو فلسطين فلهم وضع خاص بهم، فما زال التعايش والتاخي الاسلامي المسيحي مثالا للعالم أجمع يحتذى به، إلا ان الهجرة المسيحية فمن الواضح أن السبب الرئيسى لها هو الوضع السياسي المتأزم، وكذلك الوضع الاقتصادي المتدنى.
فالمسيحي الفلسطيني مثله مثل المسلم الفلسطيني يهاجر، حين تضيق بهما سبل العيش، وحين يجدان في أماكن أخرى الإمكانيات للتقدم وللعمل، وبخاصة بين فئة الشباب. فالاستهداف هو للجميع، لأن ممارسات قوات الاحتلال الاسرائيلى لا تستثني كنيسة، أو مسجدا، أو مسلما، أو مسيحيا. وتنامى سياسة تهجير مسيحيى فلسطين والقدس دفع بعدد كبير منهم إلى الهجرة إلى بعض البلدان الأوروبية، والولايات المتحدة وكندا، مما أدى إلى إفقار التعددية داخل المجتمع الفلسطينى، وتناقص أعداد المسيحيين بشكل.
بقلم/ د. حنا عيسى