تبدو غزة أكثر توقاً لاستعادة روحها الأدبية والفنية من قبضة الأيديولوجيا السوداء المعتمة، حيث لا مسرح ولا سينما ولا موسيقى ولا أماكن أو أدوات ترفيه، وأخيراً احتضن الهواء الطلق في غزة، سينما، جعلت المحرر الثقافي لموقع "أمد" يكتب: "في غزة سينما، مخرج مجنون اسمه خليل المزين، معجون بالكاميرا وبالعتمة، صالات مستأجرة مقبولة نوعاً ما لعرض الأفلام، ووزارة ثقافة خائفة من غضب الله عليها لو سمحت بظهور السجينات الفلسطينيات في فيلم 3000 ليلة بملابس غير محتشمة، رجال أمن بأجهزة اتصالات حديثة وأحذية عسكرية ومسدسات، وظيفتها أن تفصل النساء عن الرجال في صالة العرض، أطفال بعمر العام والجدة صفية حضروا، فتيات بكامل فطرتهن وأناقتهن.
لينهي المحرر الثقافي مقالته حول هذا الحدث الأهم على الصعيد الثقافي بالقول: "دعونا نحارب الاحتلال بطريقتنا. على سبيل المثل في فيلم "سارة" البطل الحقيقي كانت كاميرا المصور المحترف إبراهيم ياغي. أسبوع السجادة انتهى. وأقفلت دار العرض أبوابها غادر الممثلون ونحن على موعد قريب مع السينما من جديد... تحية حب للجمهور الذي كان هو البطل الحقيقي في هذا العرس السينمائي... لضابط المباحث الذي أدرك أن هناك أناساً غير مرتاحين من هذا الفرح المرسوم على وجوه الصبايا والشباب فدافع عنهم. الجمهور كبير كان بالكم والرقي".
في رام الله، لا يختلف الوضع كثيراً عما يدور في غزة، من استبداد مقيم، تعممه السلطة والاحتلال على حد سواء، وما بينهما سلطة "المعارضة"، قرينة تلك السلطة القائمة في غزة.
في رام الله، ماتت الثقافة وسلطة الثقافة، وغاب المثقفون، إلا من البعض القليل، ممن يصرّفون الأعمال الإدارية لما يفترض أنها الثقافة الفلسطينية تحت الاحتلال وفي مواجهته، وعلى طريقة الاحتفاءات السنوية بإقامة معارض للكتاب، احتفت رام الله بإقامة معرض كتابها هذا العام، وعلى هامشه احتفى الداخل الفلسطيني بفوز الروائي ربعي المدهون بجائزة البوكر العربية عن روايته "مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة" وبإقامة بعض الأمسيات الشعرية وغيرها من الفاعليات الثقافية.
أما في داخل الداخل، (الجليل الفلسطيني المحتل عام 1948)، وضمن الدّورة التّاسعة لاحتفاليّة فلسطين للأدب، فنظّمت جمعية الثقافة العربية، كما في كلّ عام، احتفالية حيفا، تحت عنوان "نصوص منثورة في المدينة"، وذلك يوم الثلثاء في 24 أيار (مايو) 2016، استضافت فيها 30 صوتاً في الشعر والأدب من فلسطين والشّتات والعالم العربي والعالم، بمشاركات حية وعبر الفيديو. وذلك في الفضاءات العامة للمدينة، من مقاهٍ ومساحات ثقافية وفنية، إضافة إلى المركز الثقافي العربي. وقد ضمت احتفالية الأدب في حيفا مشاركات حية لكتّاب وشعراء فلسطينيين ومن الجولان السوري المحتل ومشاركات عبر الفيديو من الشتات والعالم العربي، بما في هذه الخطوة من أشكال حضور المبدعين الفلسطينيين والعرب في حيفا الفلسطينية، رغماً عن أنف الحدود والحواجز (حدود الاحتلال وحواجزه)...
لا تستطيع الثقافة أن تصرّف أعمالها وانشغالاتها وتوزع مؤثراتها، إلا في أجواء من الفرح والحرية، طالما أن مهمتها إسعاد الروح لا قبضها، ورميها كجيفة لدى محترفي السلطة، واستعمالها واستخدامها دريئة للمصالح الزبائنية الخاصة، فكيف حين يكون الواقع محتلاً من جانب سلطتين تنسقان أمن الاحتلال، ولا تلتفتان إلى أمن الواقع الفلسطيني الموزع بين احتلال قديم، واستبداد مقيم، في كل أراضي فلسطين التاريخية.
في فلسطين، شعب يتوق إلى الحرية والاستقلال، وتذوق طعم تحقق الحلم الجماعي بوطن متحرر من الاحتلال والاستبداد والفساد، وكل سلطة تقمع إرادة الناس وتمنعهم من ممارسة حريتهم في تحرير وطن الآباء والأجداد وبنائه، واستعادته حراً من ظلم الاحتلال صاحب النكبتين الأولى والثانية، ومن كل أشكال القمع والإرهاب والاستبداد وصنوفها، لأصحابه أولئك الذين غيبوا العقل والعقلانية ورذلوهما، انتصاراً للتكفير على حساب الفهم والتفكير وإرادة التغيير.
في فلسطين، ثقافة ترنو إلى المستقبل، كي تصنع منه ورد الحدائق ونسائم الحرية. ثقافة مقاومة لا تساوم أو تساق سوق العبيد، تقاوم كل من يعترض طريقها، لا تنحني كلما مر النسيم، بل تنهض دائماً وأبداً دفاعاً عن قضية قضايا الوطن: فلسطين تاريخاً وجغرافيا وديموغرافيا يستحيل أن تموت.
كم أملنا ونأمل بأن تنتصر الثقافة كي يفرح الوطن، وكم نأمل بأن ينتصر الوطن، كي تكون الثقافة فرحنا الدائم.
ماجد الشيخ
* كاتب فلسطيني